الكاتب: مصطفى عشري – طالب دكتوراة ومدرس مساعد بكلية العلوم جامعة القاهرة – مساعد باحث بمركز الفيزياء الأساسية بمدينة زويل للعلوم والتكنولوجيا
صورة 1. منشأ الكتلة: تفاعل مباشر لجسيم مع مجال هيجز الذي يملأ الفراغ كليًا. التفاعل يبطئ الجسيم ويكسبه كتلة.
مقدمة
هل تساءلت مرة ما السبب في أن للإلكترون كتلة بينما جسيم الضوء «الفوتون» عديم الكتلة؟ بل هل تساءلت ابتداءً ما معنى الكتلة؟ وكيف اكتسبت بعض الجسيمات الأولية كُتَلَها؟ قد تبدو هذه الأسئلة أوليّة في طرحها، وأن الكتلة خاصية للجسيمات تظهر تلقائيًا بظهورها أو لا تفسير لظهورها، لكنّ الأمر ليس كذلك.
حصل «بيتر هيجز» و«فرانسوا إنجلرت» على جائزة نوبل في الفيزياء في عام 2013 [1] (صورة 2) بعد اكتشاف جسيم هيجز في «مصادم الهادرونات الكبير» (LHC) التابع للمنظمة الأوروبية للأبحاث النووية «سيرن» (CERN) في عام 2012 [2,3]. وكان ذلك لاقتراحهما وجود مجال هيجز و«آلية براوت-إنجلرت-هيجز» لإكساب كتل الجسيمات مع زميلهما الراحل روبرت براوت وآخرين في عام 1964 [4-6].
فما هو «مجال هيجز» وكيف يُكسب الجسيمات كتلها؟ وما هي العوامل التي تحدد قيمة كتلة أي جسيم؟
مجال هيجز
ذات مرة، قال الباحث في الفيزياء النظرية في سيرن «جون إليس»: (أثناء حركة متزلّج على الجليد، كلما كان المتزلج أثقل، انغمست قدماه في الجليد أعمق (صورة 3). والآن تخيل مجال هيجز وطاقته تملأ الفراغ كالجليد الممتد، فبالعكس كلما تفاعل جسيم بشدة أكبر من غيره مع مجال هيجز، قلنا أن كتلته أكبر من كتلة غيره، فكتلة الجسيم بصفة أساسية هي مقياس شدة تفاعله المباشر مع مجال هيجز. بهذه الطريقة يمكن أيضًا ربط سرعة الجسيمات الحرة بكُتَلِها، حيث تكون الجسيمات ذات الكُتَل الأكبر أبطأ نتيجة تفاعلاتها مع مجال هيجز. ولذلك تتحرك الفوتونات التي لا تتفاعل مباشرةً مع مجال هيجز بالسرعة القصوى وهي سرعة الضوء.)
هذا يعني أن بعض الجسيمات الأولية تكتسب كُتَلَها نتيجة تفاعلاتها المباشرة مع مجال هيجز الذي يملأ الفراغ كليًا بقيمة ثابتة. على سبيل المثال، يكتسب الإلكترون كتلته بتفاعله المباشر مع مجال هيجز بشدة محددة، وبعض الجسيمات الأخرى لها كتل أكبر/أقل من كتلة الإلكترون نتيجة تفاعلاتها المباشرة بشدة أكبر/أقل من شدة تفاعل الإلكترون مع مجال هيجز.
في بداية نشأة الكون كان مجال هيجز منعدمًا في طور كان الكون خلاله متزنًا، حيث كانت الجسيمات عديمة الكتلة وكانت تتحرك بسرعة الضوء كحد أقصى للسرعات. لكنّ هذا الطور الابتدائي المتماثل لم يَدُم طويلًا بسبب عدم استقراره عند مستوى طاقةٍ عالٍ، فكان بإمكان أيّ اضطرابات صغيرة حَلْحَلَتُه وتغيير قيمة مجال هيجز، وقد أزالت بعض الاضطرابات الكوانتيّة الصغيرة هذا الطور الابتدائي ليحل محلّه طورٌ آخر مستقرٌ عند أدنى مستوى طاقة مجال هيجز، فينكسر التماثل الابتدائي للكون ويملأ مجال هيجز الفراغ بقيمة ثابتة متجانسة في الفراغ كله، وهي متوسط قيمة مجال هيجز عند أدنى مستوى طاقةٍ له، أي «طاقة خواء مجال هيجز» (Vacuum Expectation Value)، وتسمى «قيمة vev لمجال هيجز».
تُحدّد قيمة vev لمجال هيجز عمق أدنى مستوى طاقة له وقدرته على التأثير على الجسيمات التي يمكنها التفاعل معه مباشرة. كما أن تغيُّر الطور الابتدائيّ المتماثل غير المستقر إلى الطور المستقر عند مستوى الطاقة الأدنى يجعل جهد مجال هيجز على شكل القبعة المكسيكية المشهورة كما بالشكل (صورة 4).
مجال هيجز مجال قياسيّ يتحدد تمامًا بقيمة وحيدة عند أي موضع وفي أي لحظة، وهذه القيمة مطلقة لكل «الراصدين القصوريين» لمجال هيجز. بل أكثر من ذلك أن قيمة vev ليست مطلقة بالنسبة للراصدين القصوريين فحسب، لكنها أيضًا مطلقة لكل راصدي مجال هيجز من «المرجع القصوري» نفسه، ومن كل مرجع ذاتي لأي راصد بالنسبة للمجال. نتيجةً لذلك، فإن قيم كتل الجسيمات قيم مطلقة بالنسبة لجميع الراصدين، وبذلك تعتبر الكتلة خاصية ذاتية للجسيمات.
بوزون هيجز
تمامًا كما يتكون الجليد الممتد أساسًا من حبيبات صغيرة، يمكن لكميات محددة من طاقة مجال هيجز أن تأخذ حيزًا من الفراغ على هيئة جسيمات هيجز، وهي جسيمات مجال هيجز (صورة 5). وجسيمات أي مجال تحمل طاقته أثناء التفاعلات، وتكون خصائصها من خصائص المجال نفسه. فبما أن مجال هيجز مجال قياسي، فإن جسيم هيجز جسيم قياسي أيضًا، وهذا يعني أن له حالة مغزلية وحيدة.
جسيم هيجز هو بوزون متعادل كهربيًا، عدده الكمي المغزلي يساوي صفرًا، وكتلته تعادل 125 جيجا إلكترون فولت (GeV) ومتوسط نصف عمره 1.56×10^-7 فيمتو ثانية، كما أنه «الجسيم المضاد» (Antiparticle) لنفسه.
الجسيمات الأولية وتفاعلاتها الأساسية
تنتمي الجسيمات الأولية إلى واحدة من عائلتيّ الفرميونات والبوزونات. والفرق الأساسي بينهما في عدد الكم المغزلي وما إذا كان كسرًا نصف صحيح (1/2،3/2،…) للفرميونات أو عددًا صحيحًا (0،1،…) للبوزونات، وهذا الاختلاف يُميّز سلوك كل فئة من هذه الجسيمات عند تواجدها في أعداد كبيرة مع بعضها البعض عن الفئة الأخرى، ويُحدد مقدار الطاقة التي يمكن أن يأخذها كل جسيم من كل فئة.
جسيمات المادة كلها فرميونات أعدادها الكمية المغزلية تساوي (½)، وهي عبارة عن ستة لبتونات، وستة أنواع من الكواركات. تتكون اللبتونات من الإلكترون مع شبيهيه «الميون» و«التاو»، ذوي الكتل الأكبر من كتلة الإلكترون، ونيوترينواتها المناظرة المتعادلة كهربيًا، بينما تأتي الكواركات في ثلاث عائلات رئيسية. تحتوي العائلة الأولى على «كوارك علوي» موجب الشحنة الكهربية (⅔) و«كوارك سفلي» سالب الشحنة الكهربية (-⅓)، ونظيرتاها عائلتان ذواتا كتل أعلى من الكتل المناظرة في العائلة الأولى، ولكل عائلة من الثلاثة شبيهتان تختلفان عنها في الشحنات اللونيّة فقط.
على الجانب الآخر، فإن الجسيمات التي تنقل التفاعلات الأساسية بين جسيمات المادة بوزونات أعدادها الكمية المغزلية تساوي (1). وبوزون هيجز هو الجسيم الأولي الوحيد المكتشف، وعدده الكمي المغزلي يساوي صفرًا (حتى الآن). كل اللبتونات والكواركات وبوزونات القوة النووية الضعيفة W+/-, Z لها كتل، وقد اكتسبت كُتَلَها من خلال تفاعلاتها المباشرة مع مجال هيجز، والنموذج المعياري لفيزياء الجسيمات الأولية هو التمثيل الرياضي للتفاعلات الكهرومغناطيسية، التفاعلات النووية الضعيفة والتفاعلات النووية الشديدة كما يلي (صورة 6).
تحدث «التفاعلات الكهرومغناطيسية» بين الجسيمات المشحونة كهربيًا نتيجة لتبادل الفوتونات فيما بينها. والفوتونات جسيمات عديمة الكتلة ومتعادلة كهربيًا، وهذا يجعل تأثير التفاعلات الكهرومغناطيسية طويل المدى. وتلعب التفاعلات الكهرومغناطيسية الدور الأساسي في تحديد التركيب الذري للمادة (صورة 7).
بينما تحدث «التفاعلات النووية الضعيفة» بين الكواركات وبعضها وبين اللبتونات وبعضها نتيجة تبادل بوزوني W+/- المشحونين وبوزون Z المتعادل، وهي بوزونات بكُتَل، هذا يجعل تأثير التفاعلات النووية الضعيفة قصير المدى، وهي القوة المسئولة عن تغيير هويات الجسيمات فيما بينها كتحويل البروتون إلى نيوترون والعكس. كما أنها مسئولة عن الإشعاع النووي للعناصر الكيميائية، وبالتالي تغيير أنواع الأنوية الذرية وتكوين النظائر الكيميائية (صورة 8).
وأخيرًا، تحدث «التفاعلات النووية الشديدة» بين الكواركات وبعضها نتيجة شحناتها اللونية المسؤولة عن القوة النووية الشديدة وتسمى (أحمر-أخضر-أزرق). وتحدث هذه التفاعلات عن طريق تبادل ثمانية جلونات، لكنّها تحمل شحنات لونية مزدوجة، على عكس الفوتونات التي تنقل القوة الكهرومغناطيسية لكنها متعادلة كهربيًا. هذا يتسبب في تفاعل الكواركات مع الجلونات، والجلونات وبعضها، ويؤدي إلى قِصَرِ مدى تأثير القوة النووية الشديدة على الرغم من أن الجلونات عديمة الكتلة. والقوة النووية الشديدة هي المسئولة عن تجميع بعض الكواركات مع بعضها، وتكوين جسيمات مركبة مثل البروتون والنيوترون وغيرها، كما أنها مسئولة أيضًا عن تكوين الأنوية الذرية (صورة 9).
تتفاعل الكواركات بكل أنواع القوى السابقة، بينما تتفاعل اللبتونات وبوزون هيجز بالقوى الكهرومغناطيسية والقوى النووية الضعيفة على الأكثر. والنموذج المعياري يمثل التفاعلات المباشرة وغير المباشرة بخليط من القوى الثلاثة السابقة بين جسيمات المادة والبوزونات وبوزون هيجز (صورة 10).
تعقيب
علمنا أن الكتلة ليست كمية أساسية للجسيمات، لكنّها تنشأ نتيجة تفاعلاتها المباشرة مع مجال هيجز وتتحدد قيمتها بشدة التفاعل مع مجال هيجز وقيمة vev لمجال هيجز. وتحدثنا أيضًا عن الجسيمات الأولية وتفاعلاتها الأساسية. في الجزء الثاني من هذا المقال، سنتحدث عن تفاعلات الجسيمات مع مجال هيجز وكيفية نشأة الكتلة مقدارًا. كما سنتحدث عن اكتشاف جسيم هيجز في مصادم الهادرونات الكبير ونشأة كتل النيوترينوات.
قائمة المراجع
- Prize announcement. NobelPrize.org. Nobel Prize Outreach AB 2021. Wed. 7 Jul 2021.
https://www.nobelprize.org/prizes/physics/2013/prize-announcement/
- The ATLAS Collaboration, Observation of a new particle in the search for the Standard Model Higgs boson with the ATLAS detector at the LHC, Physics Letters B Volume 716, Issue 1, 17 September 2012, Pages 1-29
- The CMS Collaboration, Observation of a new boson at a mass of 125 GeV with the CMS experiment at the LHC, Physics Letters B Volume 716, Issue 1, 17 September 2012, Pages 30-61
- F. Englert and R. Brout, Broken Symmetry and the Mass of Gauge Vector Mesons, Phys. Rev. Lett. 13, 321 – Published 31 August 1964
- Peter W. Higgs, Broken Symmetries and the Masses of Gauge Bosons, Phys. Rev. Lett. 13, 508 – Published 19 October 1964
- G. S. Guralnik, C. R. Hagen, and T. W. B. Kibble, Global Conservation Laws and Massless Particles, Phys. Rev. Lett. 13, 585 – Published 16 November 1964
قائمة مراجع الصور
- صورة 1: تجربة أطلس في مصادم الهادرونات الكبير 2010، منشأ الكتلة https://youtu.be/0ILLQUilpzg?list=PLA5D8B95B12B4427A&t=145
- صورة 2: La Libre، Planet، 10-12-2013، فرانسوا إنجلرت وبيتر هيجز يتسلمان جائزة نوبل في الفيزياء https://www.lalibre.be/planete/francois-englert-officiellement-recompense-du-nobel-de-physique-52a74385357004c37c8a8ef0
- صورة 3: pngarea، متزلجي الجليد كالجسيمات خلال مجال هيجز https://www.pngarea.com/view/08f792b7_flock-of-birds-silhouette-png-practice-of-social/
- صورة 4: جون إليس 2013، فيزياء مجال هيجز (arXiv:1312.5672)
- صورة 5: GIFER، التماثل وبوزون هيجز https://i.gifer.com/JAGs.mp4
- صورة 6: ويكيبيديا 2014، تفاعلات الجسيمات الأولية في النموذج المعياري لفيزياء الجسيمات https://commons.wikimedia.org/wiki/File:Elementary_particle_interactions_in_the_Standard_Model.png
- صورة 7: CMC sherezade 2012، النموذج الذري http://buenosherezade.blogspot.com/2012/11/
- صورة 8: ويكيبيديا 2007، تحلل بيتا https://en.wikipedia.org/wiki/Beta_decay#/media/File:Beta-minus_Decay.svg
- صورة 9: ماريو مولر 2004، القوة النووية الشديدة: الجلونات، الكواركات، البروتونات، النيوترونات والأنوية الذرية https://www.semanticscholar.org/paper/Shielding-studies-for-the-CERN-at-experimental-5-Mueller/cfb4833624d7cf601731a466f8a3d45de71b2e0f
- صورة 10: WordPress.Com 2018، دالة لاجرانج للنموذج المعياري لفيزياء الجسيمات الأولية https://feynmanniancontinuum.wordpress.com/2018/07/01/soul-and-afterlife/