تمثل الخلية الحية الوحدة البنائية والوظيفية للكائن الحي. وعلى الرغم من كونها لا تُرى بالعين المجردة لصِغَر حجمها، ظهرت لنا الخلية الحية -مع تطور التكنولوجيا والميكروسكوبات- كعالَم واسع أدركنا حينها أننا لا نعرف عنه كثيرًا. في رحلة استكشاف لا تختلف كثيرًا عن استكشاف الفضاء الفسيح ومحاولة فهم المجهول والكشف عن اللا مرئي، يسعى علماء الأحياء البنيوية إلى خوض رحلة إلى أعماق الكائن الحي لمحاولة فهم «البروتينات» (Proteins) التي تمثل الأيدي العاملة في المصانع المتعددة التي تحتويها الخلية الحية.
ما هي البروتينات؟
البروتينات ناتج عملية فك تشفير المعلومات المحمولة على «الحمض النووي الريبي منقوص الأكسجين» (DNA). بالإضافة إلى اعتبارها الأيدي العاملة في الخلية الحية، تمثل البروتينات وحدات بنائية في غاية الأهمية حيث تساهم في تكوين معظم تراكيب الخلية الحية. يمكن القول أن البروتينات تقوم تقريبًا بكل المهام في الخلية الحية؛ حيث تساهم في الحفاظ على شكل الخلية والتنظيم الداخلي للعمليات الحيوية، وتساعد أيضًا في طرد المخلفات بالإضافة إلى استقبال الإشارات الخلوية من البيئة المحيطة.
مجموع البروتينات الكامل داخل الخلية الحية يُعرَف باسم «البروتيوم» (Proteome)، حيث يمكن القول أن صحة الخلية تتمثل في صحة البروتيوم، ولهذا فإن أي خلل يحدث له قد يسبب ضررًا يؤدي إلى موت الخلية أو مرضًا يهدد حياة الإنسان.
مِمَّ تتكون البروتينات؟
تتألف البروتينات من وحدات بنائية تُسمَّى «الأحماض الأمينية» (Amino Acids)، يرتبط كل حمض أميني بالآخر عن طريق رابطة تُعرَف بـ«الرابطة الببتيدية» (Peptide Bond)، ويمثل هذا التتابع الخطي للأحماض الأمينية -رابطًا كل حمض أميني بالآخر عن طريق الرابطة الببتيدية- «البنية الأولية للبروتين» (Protein Primary Structure).
تخضع البِنية الأولية للبروتين لتأثير قِوَى كيميائية لعملية تُسمَّى «الطَّي» (Folding) -والتي تُعتبَر حدثًا بيولوجيًا حرِجًا أثناء صناعة البروتينات- حيث يبدأ تتابع الأحماض الأمينية في التحول إلى أشكال تُعرَف بـ «البُنَى الثانوية» (Secondary Structure)، والتي تتمثل في «لفائف ألفا» (Alpha-Helices) و«صفائح بيتا» (Beta-Sheets).
تبدأ البُنَى الثانوية بدورها في التعرض للطي مكوِّنة «البنية الثلاثية» (Tertiary Structure)، قد تتجمع البُنَى الثلاثية مع بعضها البعض مكوِّنة «البنية الرباعية» (Quaternary Structure). يتعرض البروتين للطي إلى أن يصل إلى الشكل ثلاثي الأبعاد الأكثر استقرارًا من حيث الطاقة، والذي يُمَكِّنه من أداء وظيفته بشكل صحيح داخل الخلية فيما يُعرَف بـ«البنية الواطنة» (Native Conformation).
ما الذي نحاول فهمه؟
يُعرَف العلم الذي يهتم بدراسة بنية الجزيئات الحيوية -وبالأخص البروتينات، وكيف تؤدي هذه الجزيئات وظيفتها، وكيف تتفاعل مع الجزيئات الحيوية الأخرى- باسم «علم الأحياء البنيوي» (Structural Biology). يهتم الباحثون في هذا المجال بتحديد البنية التي يتكون منها البروتين ومحاولة معرفة الوحدات الأصغر المكوِّنة له، وأيضًا معرفة التغيرات التي تطرأ على هذه البنية أثناء التحول من الحالة الخاملة إلى الحالة النشطة، أي عندما يبدأ البروتين بأداء وظيفته في الخلية.
يستخدم الباحثون في هذا المجال طرقًا مختلفة لمحاولة تحديد بنية البروتين، مثل: «التبلور باستخدام الأشعة السينية » (X-ray Crystallography)، و«المجهر الإلكتروني فائق البرودة» (Cryo-Electron Microscopy)، وأيضًا «الرنين المغناطيسي النووي» (Nuclear Magnetic Resonance). تُستخدَم هذه التقنيات في تحديد بنية البروتينات عن طريق التقاط صور لها. ورغم تواجد وسائل متعددة لتحديد بنية البروتين، تواجه تلك الوسائل العديد من التحديات التقنية بسبب الحجم شديد الصغر للبروتين، مما يُصعِّب من عملية الكشف عن صور عالية الدقة للبروتين.
يخبرنا «شريف الصبَّاغ»، المرشَّح لنيل درجة الدكتوراه في الكيمياء الحيوية من «جامعة توبنغن» (Eberhard Karls University of Tübingen)، أنَّ الاهتمام بتحديد بنية البروتينات سببه الارتباط الوثيق ما بين البنية والوظيفة التي تقوم بها؛ حيث يساعدنا تحديد البنية الخاصة بالبروتين على فهم الوظيفة التي يؤديها في الخلية.
يستكمل الصبَّاغ قائلًا أن فهم وظيفة البروتين يفتح آفاقًا للعديد من التطبيقات التي تساعد على تحسين حياة الإنسان؛ فمجال علم الأحياء البنيوي مرتبط بشكل كبير بمجال «استكشاف الأدوية» (Drug Discovery)، حيث يساعد فهم بنية بروتين ما على تصميم أدوية تستهدف هذا البروتين، ليقوم الدواء بتقليل أو زيادة نشاط البروتين تبعًا لطبيعة المرض.
ينهي الصبَّاغ حديثه قائلًا أن من التطبيقات التي يمكن تنفيذها -نتيجةً لفهم بنية البروتينات- تصميم بروتينات مشابهة لكنها تمتاز بخصائص وصفات أفضل، ولا تقتصر التطبيقات المتعلقة بفهم بنية البروتين على هذه الأمثلة فقط؛ بل هناك العديد من التطبيقات الأخرى التي تمكننا من فهم طبيعة الأمراض وإيجاد حلول لها.
علم الأحياء البنيوي والذكاء الاصطناعي
أدَّى توافر البيانات التي حصلنا عليها بواسطة التقنيات المعملية إلى نشوء تحدٍ بين مستخدمي الذكاء الاصطناعي لتصميم خوارزميات للتنبؤ بالبنية ثلاثية الأبعاد الخاصة بالبروتين. تمكنت شركة الذكاء الاصطناعي «جوجل ديب مايند» (Google DeepMind) المملوكة لشركة «ألفابت» (Alphabet) من تصميم نموذج ذكاء اصطناعي يُسمَّى «ألفافولد» (AlphaFold).
تمكن هذا النموذج من تحديد البنية ثلاثية الأبعاد الخاصة بالبروتين على المستوى الذري بواسطة تتابع الأحماض الأمينية الذي يمثل البنية الأولية للبروتين. وتستكمل الشركة إنجازاتها هذه الأيام بتطوير أداة جديدة -تعتمد على شبكة ألفافولد- تُسمَّى «ألفاميسينس» (AlphaMissense)، حيث تمتلك هذه الأداة القدرة على تحديد أماكن الطفرات الموجودة في البروتين، والتي قد تكون سببًا في حدوث حالات مرضية.
خاتمة
ما زال علم الأحياء البنيوي يواجه العديد من التحديات، إلا أنها لن تقف عائقًا أمام العلماء للكشف عن الإنجازات التي سوف يحققها هذا التخصص لتحسين حياة الإنسان. ومع تقدم تقنيات الذكاء الاصطناعي، وأيضًا التقنيات المعملية (خاصة مع التطورات الأخيرة للميكروسكوب الإلكتروني فائق البرودة)، سوف يُفتَح الباب لحدوث نقلة معرفية في علم الأحياء البنيوي.
المراجع
⦁ Callaway, E. (2023, September 19). Alphafold tool pinpoints protein mutations that cause disease. Nature News.
https://www.nature.com/articles/d41586-023-02943-5
⦁ Nature Publishing Group. (n.d.-a). Protein function. Nature news. https://www.nature.com/scitable/topicpage/protein-function-14123348/
⦁ Nature Publishing Group. (n.d.-b). Protein structure. Nature news. https://www.nature.com/scitable/topicpage/protein-structure-14122136/
⦁ Subramaniam, S., & Kleywegt, G. J. (2022). A paradigm shift in structural biology. Nature Methods, 19(1), 20–23.
https://doi.org/10.1038/s41592-021-01361-7
⦁ U.S. Department of Health and Human Services. (n.d.). Structural biology. National Institute of General Medical Sciences.
https://nigms.nih.gov/education/fact-sheets/Pages/structural-biology.aspx