ألوان السماء

ظاهرة الشفق القطبي

ربما تطلعت يومًا لصورة مثل تلك ووجدت ألوانًا مبهجة تزين السماء، لكن تُرى ما هذا؟ كأنك في عرض مسرحي ترى فيه السماء تتراقص بالأضواء. إنها ما يعرفه العلماء بظاهرة «الشفق القطبي» (Aurora).

الشفق القطبي عبر التاريخ

يرجح أن أول من أطلق على هذه الظاهرة «أورورا» -إلهة الفجر عند الرومان- هو العالم «جاليليو» (Galileo Galilei) في عام 1619 م، لكنه لم يوفق في تفسير هذه الظاهرة؛ حيث اعتقد أنه نتيجة لانعكاس ضوء الشمس من الغلاف الجوي.

وفي عام 1790م، استخدم العالم «هنري كافنديش» (Henry Cavendish) تقنية تُعرف باسم «التثليث» (Triangulation) لتقدير إحداثيات الشفق القطبي، واستنتج أنه يبعد 60 ميلًا فوق سطح الأرض. ثم استكمل المسيرة من بعده العالم النرويجي «كريستيان بيركلاند» (Kristian Birkeland) -أبو علم الشفق القطبي الحديث-، وأوضح في عامي 1902 و1903 أن هذا الضوء الشفقي بسبب تيارات كهربائية تتدفق عبر غازات الغلاف الجوي العلوي.


فيزياء الشفق القطبي

التقطت هذه الصورة وغيرها ليلًا وتحديدًا أسفل المنطقة القطبية، فلم هذا الوقت بالتحديد؟ ولم هذه الأماكن؟ الأمر متعلق بالشمس ونشاطها، فالشمس كرة كبيرة ملتهبة بها غازات شديدة السخونة، وهذه الغازات تتكون من جسيمات مشحونة يطلق عليها «الأيونات»، وهي موجودة باستمرار على سطح الشمس لتُكوِّن «الرياح الشمسية» (Solar Wind).

هذه الرياح الشمسية ضارة جدًا بالكائنات الحية على الأرض، فمن رحمة الله وجود مجال مغناطيسي للأرض يصطدم بهذه الرياح قبل دخولها للكوكب فتتشتت في المجموعة الشمسية حول الأرض؛ ولكن بعض هذه الأيونات المشحونة بطاقة هائلة تتمركز في منطقة الأيونوسفير من الغلاف الجوي وتنجذب إلى قطبي المجال المغناطيسي للأرض شمالًا وجنوبًا، لتبدأ في الاصطدام بغازات الأكسجين والنيتروجين في الغلاف الجوي فتكون هالات الألوان من أحمر وأزرق وأصفر وأخضر على ارتفاعات عالية من مستوى سطح الأرض وتتحرك هذه الهالات ببطء، وتصبح مرئية ليلًا وأكثر وضوحًا في الأماكن الأقل إضاءة حيث لا تخفض الإضاءة من سطوعها الظاهري (Apparent Brightness). كما أنها تتأثر بالنشاط الجيومغناطيسي، فيعد أفضل وقت لرؤيتها بعد منتصف الليل بساعة أو بساعتين، حيث يقل نشاطها بعد ذلك وتتشتت.

وتختلف ألوان هذه الظاهرة حسب ارتفاعها ونوع ذرات الغازات التي تصطدم بها الأيونات؛ فاصطدامها بذرات الأكسجين يعطي هالة من الأصفر والأخضر وهي أكثر الألوان شيوعًا وتتحسس منها الأعين، أما اصطدامها بذرات النيتروجين يعطي هالة من الأحمر والأزرق، واصطدامها بذرات الهيليوم والهيدروجين يعطي هالة من الأزرق والبنفسجي، ولكن يصعب على العين البشرية تمييز هذا الجزء من الطيف الكهرومغناطيسي.


مواقع الشفق القطبي

يمكن رؤية الشفق القطبي بوضوح على كوكبنا في فصل الشتاء حيث انخفاض مستوى التلوث الضوئي، وليس بالضرورة أن تذهب إلى قطبي الأرض لتراه، فيمكن رؤيته في عدة أماكن ليلًا نظرًا لحركة هالاته البطيئة، ومن بين هذه الأماكن كندا، وهي الأفضل على الإطلاق لانخفاض التلوث الضوئي بها ووقوعها على خط العرض الشمالي من بدايات أغسطس حتى بدايات مايو، آيسلندا وتحديدًا جبل كيركوفيل على امتداد الساحل الغربي من أواخر أغسطس حتى بدايات شهر إبريل، ألاسكا وبالتحديد فيربانكس من أواخر أغسطس حتى بدايات شهر أبريل، لكنها تبتعد درجتين فقط عن القطب الشمالي المتجمد.

كما ترى الشفق القطبي أيضًا في النرويج وخصوصًا ترومو في الشمال من منتصف شهر سبتمبر حتى أواخر مارس، وفي شمال السويد وفنلندا حيث كيرونا في أقصى شمال السويد ومنطقة لابلاند (روفانيمي) في فنلندا من منتصف سبتمبر حتى أواخر مارس، وفي تسمانيا ونيوزلندا في نصف الكرة الجنوبي، وتستمر هذه الظاهرة على مدار العام.

لكن هل يظهر الشفق القطبي على كواكب أخرى في المجموعة الشمسية ؟ نعم، فالكواكب التي يتوفر بها أغلفة جوية ومجالات مغناطيسية كبيرة تشهد هذه الظاهرة كما هو الحال على كوكب المشتري وكوكب زحل.


حدث لا نشهده كثيرًا

في مايو 2024، إثر عاصفة شمسية نادرة، ظهر الشفق القطبي في أماكن كثيرة في أوروبا وأمريكا لم يعتد الظهور فيها، منها أجزاء من أميركا اللاتينية والمكسيك وبريطانيا وروسيا وأستراليا. كانت آخر مرة يقع فيها حدث كهذا في أكتوبر 2003 وفقًا لمركز التنبؤ بالطقس الفضائي التابع للإدارة الوطنية الأمريكية للمحيطات والغلاف الجوي. وقد تكون عاصفة بهذا الحجم الكبير خطرًا على الكوكب، نظرًا لأثرها على الغلاف الجوي العلوي، فتتأثر الاتصالات والكهرباء تبعًا لذلك، كسابقة «حدث كارينغتون» (Carrington Event) في سبتمبر 1859.

كانت عاصفة مايو الماضي نتاج الدورة الشمسية الخامسة والعشرين التي بدأت في ديسمبر 2019، وتتوقع وكالة ناسا أن تستمر للعام القادم وتبلغ ذروتها في يوليو 2025.

لا تزال ظاهرة الشفق القطبي محط أنظار علماء الفلك والفضاء، وإلى الآن ترسل وكالة ناسا وغيرها استطلاعات وتنشر أبحاثًا عن هذه الظاهرة، وتظهر نظريات وأساطير عنها من القدم. فلا يسعنا إلا أن نقف إجلالًا لآثار رحمة الله علينا التي ينطق بها العلماء بين الحين والآخر ليفسروا لنا بعضًا منها.



المصادر

Exit mobile version