يتكون جسم الإنسان من عدد مهول من الخلايا؛ خلايا تُكوِّن الأعضاء الداخلية، وخلايا مسؤولة عن الدفاع عن بقية الخلايا ضد الأمراض، وخلايا تفكر وتنظم وتتذكر.
في هذه البيئة المشغولة للغاية، والمنظمة بدرجة قصوى لكيلا تتداخل العمليات الحيوية مع بعضها بعضًا ولا تتأخر بسبب بعضها؛ في هذه البيئة يتكون أشرس أعدائنا، وأكثرهم فتكًا؛ يتكون السرطان.
النظام الخلوي:
هذه الخلايا المكونة لكل هذا الجسد ليست أزلية، وإنما تفنى الخلايا وتتجدد بانتظام في عملية تُعرَف بـ «تجدد الخلايا» (Regeneration). ولتكون هذه العملية منطقية، يجب على الجسم عند استبدال الخلايا أن يستبدلها بنسخ طبق الأصل من النسخ الماضية. في هذا المجال الضيق تحديدًا تكمن المشكلة.
نواة الخلية هي الجزء ذو المسؤولية الأكبر عن عمليات الانقسام الخلوي والموت والتجدد، وبخاصة «الحمض النووي للخلية «داخل النواة (DNA). يمكن اعتبار الحمض النووي هو بصمة الخلية عن نفسها؛ لذلك عند التجدد، يجب على الخلية أن تُنتِج نسخة من حمضها النووي لا يختلف أبدًا عن الحمض النووي الأصلي.
لكن هذا لا يحدث. الجسم البشري ليس دقيقًا جدًا في هذه العملية، وإنما في الواقع وعند نسخ الحمض النووي، تتكون بعض الأخطاء في النسخة الجديدة، تُسمَّى في هذه الحالة «طفرات» (Mutations). بعض الطفرات قد تكون مفيدة، ومعظمها لا يفيد ولا يضر، أما البعض الآخر فهو محل الخطر.
يتكون السرطان عند حدوث خلل ما في مرحلة الانقسام الخلوي؛ خلل يؤدي لعطل خطير، فالخلية -نظرًا لاحتمال وجود كل تلك الطفرات- لديها خط دفاع أخير؛ آلية تدمير ذاتي تسبب «الموت المُبرمَج للخلايا» (Apoptosis) في حالة نتجت معطوبة، أما في حالة حدوث خلل لتلك العملية بالذات، فعندها يبدأ المرض بخلايا تتكاثر معطوبة ثم لا تستجيب لإشارات الجسم المتكررة للتدمير الذاتي.
السرطان بالأرقام:
يؤثر السرطان على أكثر من 53 مليون شخص حول العالم يعيشون معاناة طويلة ضد المرض. خلال عام 2022 تم توثيق أكثر من 20 مليون حالة إصابة جديدة و9.7 مليون حالة وفاة متعلقة بالمرض. وواقع الأمر أن السرطان ليس مرضًا واحدًا متفردًا، لكنه يضم أكثر من مائتي نوع مختلف من الأمراض. يحتل سرطان الرئة المركز الأول بين حالات الإصابة، يليه سرطان الثدي ثم سرطان القولون.
نظرًا لتنوع الأمراض السرطانية فإن الأعراض المصاحبة تختلف تباعًا. هناك أعراض عامة كالشعور بالتعب والإرهاق وفقدان الوزن، ثم هناك أعراض متعلقة بكل نوع من المرض على حدة؛ كظهور الورم في إحدى مناطق الجسم حيث يبدأ دون ألم في معظم الحالات، أو تغير شكل وهيئة جزء من الجسم أو النزيف غير المفسر.
بعد علاجها، بعض الأورام تعاود الظهور مرة أخرى، عندها تنخفض معدلات النجاة بشكل كبير، لكن وبشكل عام، فإن معدلات الشفاء من السرطان في ازدياد مستمر، وذلك بسبب كثرة البحث في هذا المجال ومحاولة إيجاد علاجات شافية.
رغم استثمار أكثر من 24 مليار دولار أمريكي في أبحاث السرطان، حسب دراسة منشورة في مجلة «ذا لانسيت» (The Lancet)، لا يزال الوصول لترياق نهائي للقضاء على هذه الأمراض أمرًا بعيد المنال. يرجع هذا للطبيعة الصعبة والمركبة لأمراض السرطان جميعًا.
لماذا لا يمكننا القضاء على السرطان:
كما سبق توضيحه، فالسرطان ليس مرضًا واحدًا، بل عدة أمراض تجاوز المائتين، تختلف في أسبابها وفي تطورها المرضي ثم في علاجها.
في جوهرها، السرطانات هي أمراض يفقد فيها الجسم السيطرة على خلاياه التي تتكاثر بلا توقف وبلا داعٍ، حتى تُكوِّن كتلة تزاحم أعضاء الجسد. وعندما يشعر الجسم بوجود تلك الكتلة التي يتعرف عليها كجسم غريب، فهو يبدأ في مهاجمتها عن طريق خلاياه المناعية، لكن السرطانات -وبقدرتها الخاصة على البقاء عبر الطفرات- تُكوِّن طفرات جديدة هي خطوطها الدفاعية؛ فتتوارى عن الخلايا المناعية أو تثبط من عملها ضدها، أي أنها بشكل ما تُكوِّن مناعة ضد خلايا الجسم الدفاعية.
وتتوالى المصادفات السعيدة للورم عندما يُكوِّن -عن طريق الطفرات المتتابعة- صفات تساعده على النمو والانتشار أكثر فأكثر. من أهم هذه الخصائص قدرته على تكوين أوعية دموية خاصة له تمده بالمغذيات اللازمة لنموه والأكسجين اللازم لتنفس خلاياه؛ فهو بهذا يُكوِّن عضوًا طفيليًا كاملًا يجبر جسد المُضيف على تغذيته.
كل هذه الصفات وغيرها تجعل التخلص من تلك الأمراض أمرًا بالغ الصعوبة، ففي النهاية نحن لا نتعامل مع كائن مُمرِض خارجي طارئ على الجسم، بل نتعامل مع جزء من هذا الجسم نفسه، يعلم كيف يطوعه لصالحه، ثم هو ينمو ويتكاثر مُحاطًا بخلايا الجسم السليمة وليس في منأًى عنها، فيصعب التركيز عليه دون المساس بما حوله من خلايا سليمة.
ثم هناك مشكلة أخرى تواجهنا إذا ما تمكنا من تخطي ما قد سبق، وهي أن الخلايا الناتجة عن الخلية الأولى قد لا تتشابه بينها وبين بعضها ثم بينها وبين الخلية الأم؛ لهذا من الصعب التخلص من مرض كهذا، فكل خلية في الورم لها خصائصها المميزة ثم لها جينها وطفرتها المميزة؛ أي كل خلية هي مرض بحد ذاته، وبالتالي من الصعب تغيير العلاج المستخدم ليواجه كل خلية على حدة.
عندما يصل الورم السرطاني للمرحلة التي تبدأ فيها كتل منه بالانفصال عن الكتلة الرئيسية فيما يُعرَف بـ «النقائل» (Metastasis)، ثم الانتشار لأماكن جديدة حيث تسقط وتُكوِّن بؤرة ورم جديد، عندها يوصف المرض أنه في مرحلته النهائية. يتكاثر الورم بشراسة أكبر من كل ما مضى ويسيطر على أماكن وأعضاء مختلفة، حتى يسيطر على كامل الجسد، ثم لا يفنى إلا بفناء هذا الجسد نفسه.
هل يوجد أمل؟
تطور فهمنا وقدرتنا أمام أمراض السرطان بصورة مبهرة في العقود الماضية، فمن مرض كان يتراوح معدل البقاء بعد الإصابة به لعدة شهور حتى سنة عند اكتشافه، وحتى وصولنا اليوم لمعدلات هي الأعلى في نسب الشفاء من أنواعه المختلفة ثم في جودة الحياة مع وجوده، قد قطعنا شوطًا كبيرًا وما يزال أمامنا الكثير.
هناك الكثير من العلاجات الواعدة والأفكار الثورية لمواجهة الخطر المدقع: من علاجات مناعية تحسن من جودة الاستجابة المناعية الطبيعية، وصولًا إلى العلاجات الإشعاعية والكيميائية المختلفة التي تلاقي تطورًا مذهلًا، ثم الجراحات التي وصلت لدرجات من الدقة تكاد لا تصدق.
يُستخدَم حاليًا الذكاء الصناعي لزيادة فرص النجاة من المرض. بدايةً، يُستخدَم لزيادة دقة الكشف المبكر واكتشاف الأورام في مراحلها الأولى مما يسهل كثيرًا من علاجها، ثم يُستخدَم لتوقع كيفية استجابة الخلايا لبعض الأدوية المستخدمة، فمعرفة إن كان علاج معين يستحق التجربة أم لا هي معلومة ذات قيمة في مرض حساس تجاه الوقت كالسرطان.
كما ظهرت تقنية جديدة تسمى التعديل الجيني يمكننا عبرها عمل تعديلات في الجين البشري ومحو بعض الطفرات التي نعلم تأثيرها في تكوّن الأورام السرطانية.
ولا يزال العمل قائمًا لإيجاد عقار نهائي يقضي على الخلايا الفاسدة قبل أن تسبب كل هذا الدمار.
منذ الأزل، كان الإنسان مهووسًا بالتحكم بالأشياء، لا يترك شيئًا للصدفة، بل يُطوِّع الطبيعة وكل ما حوله لصالحه ولسيطرته. ربما كان هذا تصرفًا دفاعيًا فطريًا، فقد رأينا كيف تبدو أقرب الأشياء للإنسان -خلاياه التي بين جنبيه- عندما تخرج عن سيطرة جسده، وكيف يكون المألوف أسوأ أعدائه.
المصادر:
https://www.cancerresearchuk.org/about-cancer/cancer-symptoms
https://www.cancer.gov/about-cancer/understanding/statistics
https://www.thelancet.com/journals/lanonc/article/PIIS1470-2045(23)00182-1/fulltext#seccestitle70
https://www.ncbi.nlm.nih.gov/books/NBK195369
https://www.worldwidecancerresearch.org/news-opinion/2021/march/why-havent-we-cured-cancer-yet
https://www.thelancet.com/journals/lancet/article/PIIS0140-6736(14)61396-9/fulltext
https://molecular-cancer.biomedcentral.com/articles/10.1186/s12943-023-01925-5#Abs1