علم التعرُّف على الأنماط

هل تساءلت يومًا كيف يتعرف الطفل الصغير على أبيه وأمه عندما يراهما أو يسمع صوتيهما؟ وهل تساءلت لماذا يكف عن البكاء عندما تأتيه بشيء يطلبه؟ ولماذا يضحك عندما يرى الشخصية المحببة إليه في قصة مصورة أو يرقص على أنغام أغنيته المفضلة؟ ولماذا ينفر من طعام معين قبل أن يتذوقه، بينما ينتبه فور رؤيته للحلوى التي تعجبه؟

هل تساءلت يومًا كيف يتعرف الطفل الصغير على أبيه وأمه عندما يراهما أو يسمع صوتيهما؟

إنها القدرة الربانية التي خلق الله بها الإنسان ليتعرف على الأنماط من حوله. ولكن ما معنى «نمط»؟ وكيف يتم التعرف عليه؟ في هذا المقال نبسط لكم مجالًا بحثيًا يسمى علم «التعرف على الأنماط» (Pattern Recognition)، وهو مجال متفرع ومرتبط بمجالات علمية أخرى كـ «تعليم الآلة» (Machine Learning) و«إبصار الحاسب» (Computer Vision) و«الذكاء الاصطناعي» (Artificial Intelligence) وغيرها من المجالات الأخرى.

ما معنى «نمط» (Pattern)؟
النمط كيان غامض التعريف يمكنك تسميته. قد يكون بصمة إصبع، كلمة مكتوبة، وجه إنسان، صوت، أو حتى «شريط الحمض النووي» (DNA).

وما معنى «التعرف على النمط»؟
هو اكتشاف «الفئة» أو «الصنف» (Class) الذي ينتمي إليه هذا النمط.
بمعنى أنه عندما يكون لديك صورة لبرتقالة على سبيل المثال، وتستطيع أن تميز أن ما في الصورة ينتمي إلى فئة الفاكهة، فقد قمت بعمل «تصنيف» (Classification) لصورة النمط. وإذا استطعت أن تعرف اسمها فقد قمت بالتعرف على النمط.

علم تمييز الأنماط ما هو إلا محاكاة حسابية لقدرات البشر في تمييز الأنماط لخدمة العديد من الأغراض، بدءًا من خدمة الإنسان وتوفير وقته وجهده في الأعمال التي لا تستلزم تفكيرًا إبداعيًا أو مهارات خاصة، وحتى تلافي الأخطاء البشرية في الأعمال التي تستلزم قدرًا كبيرًا من الصبر أو دقة بالغة في إتمامها.

علم يريك العالم من منظور مختلف، لتدرك فيه قدرة الله في نعم نظنها من المسلمات، فلا تشعر بقيمتها إلا عندما تحاول محاكاتها. حينها تدرك أننا ما أوتينا من العلم إلا قليلًا.

التطبيقات الخاصة بهذا العلم كثيرة جدًا نستخدمها كل يوم. فما بين نظم التأمين والحماية بالتعرف على بصمة الإصبع والوجه وبصمة العين لحماية المنشآت، ومطابقة التوقيع وبصمة الصوت في المعاملات المصرفية، وتطبيقات طبية كالتشخيص الذاتي للأمراض، وتطبيقات تقنية كمحركات البحث على الإنترنت واسترجاع المعلومات من المواقع الإلكترونية، وتطبيقات الفلك وتنبؤات الطقس والاستشعار عن بعد، والتطبيقات الصناعية كفرز المنتجات وتحديد العيوب، وصولًا إلى برمجيات للحاسب كالتعرف على خط اليد والحروف، وتطبيقات للهاتف للتعرف الذاتي على الصوت دون الحاجة لكتابة رسالة أو البحث في قائمة الاتصال لإجراء مكالمة.

كل هذا ليس سحرًا! هو فقط نظام يقوم بتقطيع الإشارة الداخلة إليه كالصورة أو الصوت أو حتى مقطع الفيديو، إلى كيانات أصغر ويعتبرها أنماطًا جديدة، ويحاول التعرف عليها، ثم إعادة تركيبها كما كانت، أو يقوم باتخاذ قرار بناءً على تلك المعرفة.
فمثلًا، هل استخدمت مرةً خاصية الصوت في هاتفك ونطقت باسم الشخص الذي تود محادثته، فقام هاتفك المحمول بطلب الرقم؟ ماذا يحدث إذًا؟ ببساطة، يتم تقطيع إشارة الصوت الصادرة منك إلى الهاتف ومعالجتها بواسطة تطبيق عليه، فتصبح عبارة عن سلسلة من أنماط صغيرة تمثل كل منها منطوقًا يوازي حرفًا من حروف اللغة، وبعد التعرف على تلك الحروف يتم تجميع الاسم، فيقوم التطبيق بالبحث في قائمة الاتصال وإجراء مكالمة مع الشخص المقصود تلقائيًا.

هل كان لديك مرة مجموعة من الأوراق المطبوعة التي تود تعديل محتواها؟ أو كتبًا تريد تلخيصها؟ ماذا كنت تفعل حينها؟ كنت تعيد على الأرجح كتابتها على الحاسب حتى تستطيع تعديلها. ولكن هناك حل آخر! أن تقوم بمسحها ضوئيًا باستخدام ماسح ضوئي «سكانر» (Scanner) -الذي يصدر ملفًا بمسار (.pdf) به صور للصفحات الممسوحة- ثم تستخدم برمجية التعرف على الحروف “Optical Character Recognition) “OCR) لتقوم بالتعرف على المحتوى المكتوب داخل الصور.
كيف يحدث هذا؟
ببساطة، تعمل تلك البرمجية على تقطيع الصور ذات المحتوى المكتوب التي أصدرها الماسح الضوئي، وتحويلها إلى فقرات وسطور وكلمات وحروف، ثم تبدأ البرمجية بالتعرف على صور الحروف ثم الكلمات، وتعيد كتابتها مرة أخرى في ملف يمكن تعديله مثل ملفات المسار (.doc).

تُستخدم تقنيات التعرف على الأنماط في عمليات مطابقة البصمات – مصدر الصورة ويكيميديا

بصمتك أيضًا تتم مطابقتها بقاعدة بيانات للبصمات للتعرف على سجلك الجنائي. صورة وجهك في المطار يتم التعرف عليها لمطابقتها بصورتك في جواز السفر. صور الأشعة ونتائج التحاليل تُقارن بالصور الصحيحة والمعتلة لاستنتاج إصابتك بمرض ما أو خلوّك من المرض أو معرفة مدى تطور المرض لديك. الكلمات التي تكتبها في محركات البحث تتم مطابقتها بالكلمات داخل الملفات والكتب المرفوعة على الإنترنت لاسترجاع البيانات التي تبحث عنها. صور المحاصيل الزراعية والصحراء وباطن الأرض التي يرسلها القمر الصناعي تتم معالجتها لمعرفة أماكن المعادن، ومناطق الجفاف، ومواقع آبار البترول والفحم. كذلك صور الغلاف الجوي تخضع للتحليل للتنبؤ بالطقس، وصور الكواكب والنجوم تستخدم في التعرف على طبيعة الكوكب وتكوينه الداخلي. سيارتك و”نظام التموضع” (GPS) لمعرفة الاتجاهات، قراءة أرقام اللوحة ذاتيًا في أماكن المبيت لحساب التكلفة، هاتفك وتطبيقاته، وحتى احتياجاتك الترفيهية كالكاميرا الرقمية التي تحدد موقع الأشخاص قبل التصوير في مربعات، وحاسبك الذي يمكنه لعب الشطرنج معك.
ألا تطالعنا الأخبار كل يوم باختراع جديد كسيارة ذاتية القيادة، ورجل آلي يفهم تعبيرات الوجه ويرعى المسنين ويلعب الكرة؟ هذا ليس سحرًا! كل هذه الإمكانيات تعتمد في المقام الأول على تسجيل كل أنواع الإشارات الصوتية والضوئية والصور وتحليلها ببرمجيات ذكية، للتعرف على مختلف الأنماط والتصرف وفقًا لما تم تدريب أو “تعليم” الآلة عليه حسب كل حالة.

مصدر الصورة ويكيميديا

ولكن كيف تتم تحديدًا عملية التعرف على الأنماط؟
من خلال ما يسمى «السمات» (Features). فإذا رجعنا لمثال البرتقالة، لماذا تستنتج أن الصورة لبرتقالة؟ لأنها ببساطة دائرية الشكل وبرتقالية اللون. العملية مشابهة أيضًا في أشياء أخرى، فمثلًا، كيف تتعرف على صديقك في صورة؟ لعلك مثلًا تعرف لون عينيه، ورسم وجهه، ولون بشرته، وطوله وحجمه. كيف تقرأ كلمة “قطة”؟ أنت تعلم أن حرف القاف هو حلقة متصلة بشَرْطَة وعليها نقطتان هكذا “قـ”، وأن حرف الطاء هو حلقة مستعرضة تعلوها شَرْطة رأسية هكذا «ط»، وأن التاء المربوطة هي شَرْطَة متصلة بحلقة تعلوها نقطتان هكذا «ـة». إذًا فإن قـ – ط – ـة هي «قطة».
هذه الخصائص هي ما نطلق عليها اسم «سمات» (Features). والسمات يمكن أن تكون أي شيء: لون، طول، عرض، وزن، أو أي شيء يمكن ترجمته إلى رقم.

مع ذلك تكون هناك أشياء مثل الوجوه مثلًا يصعب منها استخراج سمات مباشرة كما الأمثلة السابقة. حينها نستعمل ما يسمى بـ «التحويلات» (Transforms)، وهي دوال رياضية تعبر عن أشكال المنحنيات، فيتم تحليل الصور إلى مجموعة من خطوط الرسم، هذه الخطوط يُرمز لها بتلك الدوال، ويتم اختيار نقاط محددة على هذه الخطوط، أو «معاملات» (Coefficients) الدوال نفسها لتكون «سمات».
ماذا يحدث بعد ذلك؟ الفكرة ببساطة أن قيم هذه السمات يمكن رسمها كنقاط في فراغ ثنائي أو ثلاثي الأبعاد أو أكثر من ذلك، فتجد أن الأنماط المنتمية لصنف محدد تتقارب في مواقعها داخل هذا الفراغ، بينما تتباعد عن تلك التي تنتمي لصنف آخر. وهنا يأتي دور المُصنِّف (Classifier)، الذي يتولى تقسيم هذا الفراغ بحيث يتم فصل كل صنف في حيز معين منه.

يعني كل ذلك أننا كلما جئنا بشيء جديد كصورة أو صوت فيمكننا أن نستخرج سماته، ونرى أين يقع في ذلك الفراغ، نستطيع أن نتعرف عليه من خلال معرفة موقعه بالنسبة لأقسام الفراغ الخاصة بكل صنف. فإن كان لدينا مجموعة من صور الوجوه مثلًا، وقمنا باستخراج سمات كلون البشرة، وحجم العين، والأنف، ثم قمنا بتمثيل الصور كلها في فراغ ثلاثي الأبعاد، بحيث تمثل كل صورة نقطة في ذلك الفراغ، فإنه يمكن للمصنّف أن يقوم بتقسيم هذا الفراغ إلى: وجوه آسيوية، ووجوه أفريقية، ووجوه أوروبية. كل قسم تتقارب نقاطه نظرًا لتقارب القيم الرقمية للسمات، بينما تتباعد عن القسم الآخر. وإذا حصلنا على صورة جديدة، نستطيع ببساطة معرفة إلى أي صنف ينتمي صاحبها بناءً على موقع سمات هذه الصورة في الفراغ الذي قام المصنّف بتقسيمه.

المصنِّف ما هو إلا حل رياضي، بعدما قمنا بتحويل المشكلة الواقعية إلى نموذج رياضي، فأصبح الهدف المباشر هو حساب دوال رياضية وسلاسل من «كثيرات الحدود» (Polynomials) بدرجات مختلفة، لنستطيع تقسيم الفراغ الخاص بتمثيل المشكلة. نفترضه في البداية، ثم نقوم بتعليمه وتشكيله على أمثلة محلولة، ليصبح بعدها جاهزًا للاستخدام على عينات واقعية مجهولة، والنتيجة مذهلة حقًا.
هناك عديد من تلك المصنفات التي ربما سمعت عن أسمائها من قبل إن كنت مهندسًا أو متخصصًا بعلوم الحاسب، وأشهرها على الإطلاق «الشبكات العصبية» (Neural Networks) بأنواعها، و«سلاسل ماركوف المخفية» (Hidden Markov Models)، و«ماكينات دعم الموجهات» (Support Vector Machines).


هذا العلم على الرغم من بساطة منطقه وفكرته إلا أن تطبيقاته المذهلة لا تتوقف. وعلى الرغم من صعوبة مشكلاته التقنية، إلا أن القدرات التي يمنحها لتغيير حياة البشر تستحق ذلك العناء. والمتعمق في ذلك العلم يقف عاجزًا أحيانًا أمام مشكلة تقنية توازي مهارة بسيطة للغاية يستطيع طفل بالفطرة أن يقوم بها بمنتهى السهولة، بينما تستغرق المحاكاة التقنية لهذه المهارة أيامًا وأسابيع من المتخصص.

علم يريك العالم من منظور مختلف، لتدرك فيه قدرة الله في نعم نظنها من المسلمات، فلا تشعر بقيمتها إلا عندما تحاول محاكاتها. حينها تدرك أننا ما أوتينا من العلم إلا قليلًا.

Exit mobile version