نظرية النصف الأيمن والأيسر من الدماغ.. حقيقة أم خرافة؟

بالطبع أغلبنا قد سَمِع أو قرأ من قبل عن نظرية الدماغ الأيسر والأيمن، وتعرضنا لأشخاص يعتقدون أنهم يستخدمون الجزء الأيسر من الدماغ أكثر من الأيمن أو العكس، بل إن بعضكم قد يكون مؤمنًا بصحة هذه النظرية، وعلى الأرجح مررنا باختبارات على الإنترنت الغرض منها تحديد أي جزء تستخدمه من دماغك. ونظرًا للشهرة الكبيرة التي تحظى بها هذه النظرية، قد تتفاجأ عندما تعلم أن بها الكثير من المغالطات وأن هناك أبحاثًا حديثة تثبت خطأها.

شرح النظرية

وفقًا لنظرية سيطرة الجزء الأيمن أو الأيسر من الدماغ، يتحكم كل جزء من الدماغ في أنواع مختلفة من التفكير، فتجد بعض الأشخاص تُفضل وتبرَع في نوع مُعين من التفكير أكثر من غيره. يُقال مثلًا أن الشخص الذي يستخدم الجزء الأيسر من الدماغ يتميّز في التفكير المنطقي والتحليلي ويتسم بالموضوعية، أما الشخص الذي يستخدم الجزء الأيمن من الدماغ فهو حدسيّ عميق التفكير ولا يتسم بالموضوعية.

Brain Lateralization
الاختصاصات المزعومة لكلٍ من نصفي الدماغ – مصدر الصورة ويكيميديا

النصف الأيمن من الدماغ هو الأفضل في المهام الإبداعية والتعبيرية، بعض القدرات المصحوبة بالجزء الأيمن من الدماغ تتضمن: التعرف على الوجوه – التعبير عن المشاعر – الموسيقى – فهم وإدراك المشاعر – الألوان – الصور – الحدس وسرعة البديهة – الإبداع.
النصف الأيسر من الدماغ ماهر في المهام التي تتضمن: المنطق – اللغة والتفكير التحليلي، ويُعرف الجزء الأيسر بتفوقه في: اللغة – المنطق – التفكير النقدي – الأرقام – الاستنتاج.

وفقًا لعلم النفس، نجد أن هذه النظرية مبنية على ما يُعرف بنظرية «التخصيص الجانبي لوظائف الدماغ» (Lateralization). كسائر نظريات علم النفس المنتشرة، نشأت هذه النظرية الخاطئة بسبب ملاحظات تخصّ الدماغ البشري أصابتها المبالغة والخطأ بمرور الزمن. فهل فعلًا يتحكم كل جزء من الدماغ في وظائف معينة؟ هل يستخدم الشخص إما الجزء الأيمن من دماغه أو الأيسر؟

تاريخ

تعود نظرية النصف الأيمن والأيسر من الدماغ إلى أعمال «روجر سبيري»، الحاصل على جائزة نوبل لسنة 1981. اكتشف روجر أثناء دراسته وبحثه في آثار داء الصرع أن قَطع «الجِسم الثَّفني» أو «الجسم الجاسئ» (Corpus Callosum) -وهو مجموعة من الألياف العصبية التي تربط نصفي الدماغ ببعضهما- يمكن أن يُقلل ويمنع نوبات الصرع.

الجسم الجاسئ – مصدر الصورة ويكيميديا

للتوضيح، في بعض حالات الصرع الشديدة يلجأ الأطباء إلى قطع جزء كبير من نصف الدماغ الذي تبدأ منه نوبات الصرع كحل أخير، وبمرور الوقت يملأ السائل الدماغي ذلك الفراغ مرة أخرى، وقد يستغرق المريض سنة أو أكثر حتى يتعافى ويصبح طبيعيًا مرة أخرى. وهذا يدفع العلماء ويدفعنا في الواقع للتساؤل ماذا كانت الفائدة من النصف المستأصل؟

جدير بالذكر أن أعراضًا أخرى ظهرت على المرضى بعد أن قطع الاتصال بين نصفي أدمغتهم، حيث فقد العديد من المرضى القدرة على معرفة أسماء أشياء يُعالجها ويفكّر فيها النصف الأيمن من الدماغ، بينما تمكنوا من معرفة أسماء الأشياء التي يتولى معالجتها والتفكير فيها النصف الأيسر من الدماغ. بناءً على هذه المعلومات والملاحظات، استنتج روجر أن اللغة -على سبيل المثال- يتحكم فيها نصف الدماغ الأيسر.

وفي منتصف القرن الثامن عشر، اكتشف الطبيب «بول بروكا» منطقة أساسية في النصف الأيسر من الدماغ وذكر أنها مسؤولة عن اللغة، وأن أي تلف أو عبث في «منطقة بروكا» -كما تُسمى اليوم- سيتسبب في فقدان الشخص القدرة على التحدث، وقد رأيت هذه الحالة تحديدًا في إحدى البرامج الوثائقية. كان الطبيب يعرّض تلك المنطقة لشحنة كهربائية طفيفة تُفقد الشخص أمامه القدرة على النطق مؤقتًا حتى يرفع يده مرة أخرى. الشيء المدهش أن نفس المنطقة في النصف الآخر من الدماغ لا تحدث أي تأثير على الإطلاق.

وهناك منطقة أخرى مسؤولة عن التعرف على الوجوه، ونجدها في الجزء السفلي من الدماغ. يقوم النصف الأيمن من هذه المنطقة بمعظم العمل اللازم للتعرف على الأوجه، وإذا نظرت في الواقع إلى وجه شخص ما بالعين اليسرى فقط -وهي العين المتصلة بالجزء الأيمن من الدماغ- ستتمكن من التعرف على وجهه بصورة أفضل بكثير مما إذا استخدمت العين اليمنى فقط.

الحقيقة وراء نصفي الدماغ

نظرية النصف الأيمن والأيسر من الدماغ لا تعطي التصور الصحيح لعلاقة العمل الحميمية بينهما، إذ أن كلا النصفين يعملان معًا وجنبًا إلى جنب.

صدرت بعد ذلك أبحاث ودراسات أظهرت أن الدماغ ليس في الواقع جسمًا ثنائيًا كما يبدو. أظهرت دراسة حديثة مثلًا أن قدرة الإنسان على القيام بأنشطة معينة مثل الرياضيات تكون في أكفأ حالاتها عندما يستخدم نصفي دماغه في نفس الوقت. اليوم يدرك علماء المخ والأعصاب جيدًا أن نصفي الدماغ يعملان معًا لإنجاز العديد من المهام والوظائف وأن كليهما يتصلان ببعضهما من خلال «الجسم الجاسئ».

يقول «كارل زيمر»، في مقال نُشر في مجلة «ديسكفري»: «بغض النظر عن درجة التخصصية الثنائية الموجودة في الدماغ، يعمل كلا النصفين معًا وجنبًا إلى جنب. نظرية النصف الأيمن والأيسر من الدماغ لا تعطي التصور الصحيح لعلاقة العمل الحميمية بين نصفي الدماغ، فالنصف الأيسر من الدماغ متخصص في التقاط الأصوات التي تتشكل منها الكلمات وترجمتها للمعنى الحرفي المقابل لها على سبيل المثال، لكن ليس لديه قدرة على معالجتها لغويًا، فالنصف الأيمن من الدماغ هو الأكثر حساسية وإدراكًا للمشاعر التي تتضمنها وتحملها اللغة والكلمات».

في دراسة أخرى قام بها باحثون من جامعة يوتاه، حُلّلت أدمغة أكثر من 1000 مشارك بغرض معرفة ما إذا كان أحدهم يميل إلى استخدام أحد نصفي الدماغ أكثر من الآخر. كشفت الدراسة عن ارتفاع النشاط في بعض الأحيان في مناطق مهمة من الدماغ، لكن كلا نصفي الدماغ كانا متساويين من حيث النشاط في المتوسط. يقول الدكتور «جيف أندرسون» المشرف على الدراسة: «صحيح قطعًا أن بعض وظائف الدماغ تحدث في أحد نصفي الدماغ دون الآخر، اللغة تحدث في الجزء الأيسر، والانتباه والتركيز يحدث في الجزء الأيمن، لكن الناس لا تصنف إجمالًا بحسب استخدامهم الجزء الأيسر أو الأيمن من الدماغ».

في تسعينيات القرن الماضي، ادّعى عالم النفس «مايكل كورباليس» أن عدم التماثل بين نصفي الدماغ (أو التخصصية الوظيفية) يعد من أهم مراحل تطور البشر، وهي المزية التي ساهمت في اكتسابنا اللغة والقدرات العقلية الأخرى التي تميزنا عن باقي الكائنات. اليوم يعترف «مايكل» أنه كان على خطأ وأن التخصصية الوظيفية لنصفي الدماغ ليست حكرًا على البشر. الببغاء مثلًا يفضل أن يلتقط الأشياء بقدمه اليسرى، الضفدع يهاجم الضفادع الأخرى من الجهة اليمنى بينما يطارد فريسته من الجهة اليسرى، السمك الوحشي يفضل أن ينظر للأشياء الجديدة بعينه اليمنى بينما ينظر للأشياء المألوفة بالعين اليسرى.

إحدى الفرضيات تقترح أن التخصصية الوظيفية لنصفي الدماغ أفضل من أن يكون نصفا الدماغ مجرد انعكاس لبعضهما يقومان بنفس الوظائف في نفس الوقت. فالتخصصية الوظيفية تسمح لأحد النصفين بأن يقوم بوظيفة ما ويترك للنصف الآخر القيام بمهمة أخرى. عالمة الأحياء “ليزلي روجرز” اختبرت هذه الفرضية على الدجاج، حيث يستخدم الدجاج النصف الأيسر من الدماغ للنقر والبحث عن البذور، ويستخدم النصف الأيمن لمراقبة المفترسين. بعض الدجاج يتميز بتخصصية وظيفية في الدماغ أكثر من غيره، وهناك طريقة بسيطة لزيادة تلك التخصصية الوظيفية من خلال تعريض جنين الدجاجة للضوء أثناء وجوده في البيضة. يتطور جنين الدجاج في الغالب وعينه اليسرى مطوية للداخل، بينما تكون العين اليمنى معرضة للجزء الخارجي من قشرة البيضة. بتعريض وإثارة العين اليمنى بالضوء، يتأثر تطور ونمو النصف الأيسر من الدماغ لا الأيمن. قامت ليزلي وزملاؤها بتربية 27 فرخًا صغيرًا، وعرّضتهم للضوء مع 24 آخرين لم تُعرّضهم للضوء. كان الباحثون يضعون الأفراخ الصغيرة في صندوق خاص على أرضيته بذور وحصى مبعثرة، وفي الوقت ذاته كانوا يشتتون هذه الأفراخ بتمرير دمية على شكل صقر فوق رؤوسها. لاحظ الباحثون قدرة الأفراخ الصغيرة على التمييز بين البذور والحصى، وتوصلوا إلى أن الأفراخ التي تعرضت للضوء كان أداؤها أفضل. استنتج الفريق من ذلك أن التخصصية الوظيفية الزائدة التي اكتسبتها الأفراخ وفرت لها تعددية في المهام، إذ أصبح بإمكانها استخدام كل عين بشكل منفصل وبكفاءة بحيث تتمكن من مراقبة الصقر والتمييز بين البذور والحصى.

الدراسات والأبحاث كثيرة في الواقع ويصعب علينا ذكرها جميعًا في هذا المقال، لكن علماء الأعصاب يعلمون اليوم جيدًا أن نصفي الدماغ يعملان يدًا بيد ويتصلان ببعضهما من خلال الجسم الجاسئ الذي ذكرناه، إلا أن طريقة التعاون بينهما لا نعلمها تمامًا. قد تتبادل الأجزاء المتشابهة الأدوار فيما بينهما، ليسيطر أحدهما فترة ثم يسيطر الجزء الآخر، كما يحدث في بعض الحيوانات مثل الدلافين التي تستخدم هذه التقنية للنوم والسباحة في نفس الوقت. بعض العصافير أيضًا تستخدم نفس الاستراتيجية للغناء، بحيث يعمل نصفا دماغها بالتبادل للتحكم في الرئتين أثناء الغناء، فيتحكم كل نصف منهما لأجزاء بسيطة من الثانية، ثم يتسلم النصف الآخر مهمة التحكم.

ولعل أشد ما يثير الدهشة والتعجب قدرة الدماغ على العمل بنصف واحد فقط. فعندما يُجبر أحد نصفي الدماغ على تولّي زمام الأمور بمفرده بعد استئصال النصف الآخر، يبدأ في مد خطوط اتصال جديدة وإعادة بناء نفسه ليتمكن من التحكم في الجسم بالكامل. بل إن نصفي الدماغ قد يتسببا في الواقع في مشاكل أكثر من نصف واحد لو كانت هناك صعوبة في الاتصال بينهما، وقد ربط بعض علماء الأعصاب بين اضطرابات عقلية كعسر القراءة أو أمراض أخرى شديدة مثل الألزهايمر، وبين مشاكل الاتصال بين النصف الأيسر والأيمن من الدماغ.

للدماغ القُدرة على العمل بأحد نصفيه فقط إن استرعى الأمر ذلك – مصدر الصورة ويكيميديا

إذًا، لماذا لا يزال الناس يتحدثون عن هذه النظرية؟
أثبت الباحثون والدراسات المختلفة بالفعل أن نظرية النصف الأيمن والأيسر من الدماغ حقيقة خاطئة، إلا أن هذه النظرية ما زالت متداولة وتحظى بشعبية كبيرة بين الناس والوسائل الإعلامية المختلفة. ولسوء الحظ، لا يدرك معظم الناس أن هذه النظرية قديمة جدًا. فقد يدرس طلاب اليوم هذه النظرية كجزء تاريخي متعلق بمجالهم ليس إلا لفهم كيف تطورت أفكارنا ونظرياتنا حول طريقة عمل الدماغ عبر الزمن. إدراك نقاط قوتك وضعفك بعيدًا عن مبالغات وتعميم كتب علم النفس وتطوير الذات يمكن أن يساعدك في التعلم بشكل أفضل، لكن تذكر دائمًا أن الاختبارات الخاصة بتحديد أي نصف تستخدمه من دماغك المنتشرة على الإنترنت هدفها الترفيه ليس إلا، وعليك ألا تعول كثيرًا على نتائجها.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى