الرياضيات ليست علمًا طبيعيًا أبدًا؛ فبالإضافة إلى أنها اللغة التي تتحدث بها معظم العلوم، فإنها لسبب ما تتصف بجمال مجرّد غامض لا يتواجد في سواها. وربما يعود هذا لقدرتها على اختزال الواقع، وحتى أفكار ما بعد الواقع في رموز.
الرياضيات علم مَلَكيّ إن جاز التعبير، وليست علمًا للعامة. هذا يفسّر لماذا لا يوجد تدرج في المستوى بين المشتغلين فيها؛ فإما أن تكون متمكنًا منها أو لا تكون، لا توجد حالة وسطى! ويرجع هذا إلى أن رؤيتها بصورتها الحقيقية تتطلب قدرة على «إعادة فك» الكم الهائل من التفاصيل المضغوطة بين ثنايا رموزها وفي سياق معادلاتها.
مثال صغير: كلنا تعاملنا مع أنظمة المعادلات الخطيّة في المدارس على الأرجح في المرحلة الإعدادية. هذا النوع من المعادلات يحتوي على عدد من المجاهيل التي يُطلب منك أن تجد حلًا لها، مثلًا:
المطلوب إيجاد قيمة x, y, z، أو سمها س، ص، ع إن شئت، والتي تحقق المعادلات الثلاثة. ربما تقوم أنت الآن بحلها بطريقة آلية لأنها سهلة: x= 1, y= 1, z=1.
لكن السؤال هنا: ما الذي تمثله تلك المعادلات؟ وما الذي يعنيه إيجاد حل أصلًا؟
في الحقيقة هذه المعادلات قد تفسّر بطرق كثيرة وفقًا للتطبيق الذي ظهرت فيه، لكن دعنا نقرأها من وجهة نظر رياضية بحتة لنرى كم التفاصيل التي تخفى علينا.
لنرى ما لدينا:
ثلاثة مجاهيل وثلاث معادلات (وبهذا يمكننا إيجاد حل محدد لهذا النظام من المعادلات).
نحن أولًا بحاجة إلى فضاء رياضي لتعيش فيه كل معادلة من معادلاتنا ممثلة في «كائن رياضي». بما أن لدينا ثلاثة مجاهيل فسنكون بحاجة إلى فضاء ثلاثي الأبعاد. بعد ذلك علينا تمثيل المعادلات بكائنات رياضية مناسبة، في حالتنا هذه ستمثل كل معادلة بمستوى، كما نرى في الصورة.
ما الحل الذي حصلنا عليه؟
الحل هنا إحداثيات نقطة تقاطع هذه المستويات الثلاثة ببعضها!
لاحظ أننا لا نستطيع تخيل فوق ثلاثة أبعاد لأن عقولنا غير مهيئة لهذا، وهنا تظهر القوة الحقيقية للرياضيات: بإمكاننا حل مشكلات والتعامل مع أشياء لا نستطيع إدراكها بالرياضيات!
حقيقة كهذه هي ما دفعت جاليليو لقول أن الرياضيات هي اللغة التي كتب الله بها الكون.
حقيقة أخرى مترتبة على الحقيقة السابقة: الرياضيات تسبق كل العلوم الحالية في معرفة الحقيقة بقرن على الأقل. هذا ما جعل بيتر هيجز –الحائز على جائزة نوبل في الفيزياء عام 2013– ينتظر 40 عامًا حتى يستطيع البشر (بعد إنفاق المليارات من الدولارات وتعاون دولي لـ 10000 عالم ومهندس) أن يصلوا لإثبات عملي لحقيقة ما (بوزونات هيجز) توصل لها هو عام 1964 باستخدام الرياضيات!
هذه القوة الرهيبة هي سلاح ذو حدين:
الرياضيات تدفع العقل البشري إلى حدوده القصوى، لكن محاولة تخطي تلك الحدود تصل إلى نهايات غير سعيدة. هذا يُفسر لماذا ينتهى العديد من العباقرة إلى أمراض عقلية أو انتحار أو اكتئاب مزمن.
الفيلم الوثائقي معرفة خطرة (Dangerous Knowledge) يصور هذا الأمر بتتبع نهايات أربعة من أعظم العقول البشرية في التاريخ: جورج كانتور، لودفيش بولتزمان، كورت جودل وآلان تيورينج. بإمكانك مُشاهدة الفيلم من هنا.