هل تملك زمام جيناتك؟
أشرطة من الحمض النووي تقبع في خلاياك، وتحمل شفرتك الوراثية على هيئة جينات تقول لصفاتك كن فتكون. هكذا يفكّر أكثر الناس عند الحديث عن الصفات الوراثية والجينات، وهكذا اعتقد علماء الوراثة لعقود؛ فلون عينيك وحجم أذنيك وسرعة غضبك وحتى احتمالية مرضك مُدَوَّنة على حمضك النووي (DNA) الذي ورثته عن والديك. ولأن الأوامرتنتقل من الجين لتكوين بروتين محدد يقوم بوظيفة هذا الجين، تكون الجينات إذًا-وفق هذا التصور- العقل المدبر والمتحكم في تكوين البروتينات، ومن ثم شكل وعمل الخلايا، ومن ثم صفات الإنسان، ولا يمكن للجسم التحكم في جين واحد منها.
تُرى، هل هذه هي القصة الكاملة؟! جينات نرثها دون أن يكون لنا الخيار، تتحكم في صفاتنا وطباعنا وصحتنا دون أدنى سيطرة منا؟ ألا نكون هكذا أشبه بروبوت تلقّى مجموعة تعليمات «جينات» وسينفذها سواءً شاء أم أبى؟
هذا التصور قائم على اعتبار الجين أمرًا واجب النفاذ بصورة محددة، وبمجرد تواجده في الخلية يُنفّذ هذا الأمر حتمًا. لكن في الواقع، بشيء من التأمل البسيط، يمكنك كشف عوار هذه الصورة. لو تأملت مثلًا خلية عصبية وخلية معوية من نفس الشخص ستجد أن كلتيهما تحتويان على نفس الحمض النووي ونفس مجموعة الجينات، ومع ذلك فهذه تملك من الصفات ما لا تملكه تلك، هذه تفرز عصارة هاضمة لتناسب عملها كخلية معوية، وهذه تقوم بنقل الإشارات العصبية لتناسب عملها كخلية عصبية. تذكّر أن كلتيهما تحوي نفس المادة الوراثية بنفس الجينات ونفس الأوامر، لكن ماذا حدث؟ تأمل اليرقة الصغيرة كيف صارت فراشة يافعة، كيف حدث هذا التغيّر في الشكل والوظيفة رغم أنها نفس الكائن بنفس الحمض النووي ونفس الجينات ونفس الأوامر؟ بل حتى التوأم المتماثل الذي يملك نسخًا متطابقة من الحمض النووي نلاحظ بينهما اختلافات في الشكل والطباع وحتى ظهور الأمراض، رغم أنهما يملكان نفس الجينات، فماذا حدث إذًا؟
ما حدث أن ثمة مستوى من التحكم يعلو مستوى الجينات، يقول لهذا الجين اعمل ولهذا الجين توقف، بل يقول أيضًا للجين الواحد اعمل بصورة كذا وأنتج منتجًا كذا ولا تنتج كذا، دون تغيير في تركيب شريط الحمض النووي (DNA)أو شكل الجين، وهذه التعليمات يمكنها أن تتغير بتغيُّر الظروف ويمكنها أيضًا أن تورَّث! دراسة هذا النوع من الصفات الناتجة عن التحكم في طريقة عمل الجين -وليس تغيرًا في تركيبه- يسمى «علم ما فوق الجينات»(Epigenetics).
«ما فوق الجينات» مجالٌ سطع نجمه في العقود الأخيرة، وهو العلم المهتم بدراسة الصفات التي تحدث نتيجة تغيرات في طريقة تمثيل الجين لا في تركيبه. بمعنى آخر: أن يكون لديك الجين الخاص بالصفة (س)، ومع ذلك تظهر لديك الصفة (ص) بدلًا عنها. وهذه التغيرات في الصفات قد تكون مؤقتة، وقد تستمر وتُوَرَّث إلى الأجيال القادمة، وتكون بالنسبة لهم أيضًا إما مؤقتة أو تستمر وتُورَّث حسب أسلوب حياتهم وبيئتهم.
هذا المستوى من التحكم فوق الجيني هو نتاج تأثر الجسم بالبيئة، والبيئة هنا تشمل البيئة المحيطة وكذلك بيئتك الداخلية، تشمل أين تعيش وماذا تأكل وماذا تشرب ومع من تتحدث وكم من الموقت تنام، وتشمل عاداتك وخبراتك ومشاعرك وحتى أفكارك! هذه الظروف التي تتعرض لها -خاصة في فترة الرحم وسنواتك الأولى- تؤثر في صحتك في الكبر والأمراض التي يمكن أن تصيبك.
حتى الآن توصل الباحثون إلى العديد من الأساليب للتحكم فوق الجيني سنعرض منها الثلاث الأشهر.ولكن قبل أن نستعرضها دعنا نتذكر أولًا بعض المعلومات التي درسناها في كتاب الأحياء عن الحمض النووي (DNA). يوجد داخل كل خلية جسدية 46 شريطًا من الحمض النووي(DNA)، كل منها ملتف حول نفسه وحول بروتينات دقيقة تسمى الهستونات، وهذا الالتفافيعمل على تصغير الحيز الذي يشغله شريط الحمض النووي (DNA)، أو إن شئت قل كبسه في النواة كما تُكبس أكياس القطن. ولكي تتخيل معي مدى الالتفاف الذي يتعرض له شريط الحمض النووي (DNA)، يكفي أن تعرف أنه لو تم فرد الحمض النووي (DNA)الموجود في خلية واحدة لكان طوله حوالي مترين، في حين أنه ملتف حول نفسه وحول الهستونات في النواة التي قطرها حوالي 10 ميكرو مترات، أي 1 من مئة ألف جزء من المتر! هذا الالتفاف القوي حول الهستونات يمنع وصول الإنزيمات إلى الجينات على شريط الحمض النووي (DNA)، وبالتالي كي يعمل الجين لا بد أن ينفك هذا الالتفاف جزئيًا كي تصله الإنزيمات وتنسخ الجين وتترجمه.
الآن، نعود إلى أساليب التحكم فوق الجينية.سنجد أن أحدها هو التحكم عن طريق الهستونات، فيقوم الجسم بتقوية التفاف الجين -الذي لا يرغب في عمله- على الهستون، وبالتالي لا تستطيع الإنزيمات الوصول إليه ويظل صامتًا في الخلية، أما الجين المرغوب في عمله فتُفَكك قوى الالتفاف بينه وبين الهستونات جزئيًا، فيصبح متاحًا للإنزيمات ويتم تمثيله.
الطريقة الثانية والأكثر أهمية هي إضافة مجموعات الميثايل على شريط الحمض النووي (DNA)أو إزالتها، وإضافة الميثايل قد تُخمد جينًا-وهو الاحتمال الأكثر شيوعًا- أو تُنشط جينًا، ولحسن الحظ غالبًا ما تكون الجينات التي يتم إيقافها هي الجينات غير المرغوب فيها. في تجربة أجريت عام 2003 على الفئران التي تحمل جين (Agoti)-وهو جين يجعل الفئران صفراء اللون وعرضةً للسمنة وارتفاع مستوى الإنسولين في الدم وظهور الأورام- عند تناول الأم أثناء الحمل غذاءً فقيرًا في مصادر الميثايل، كانت أغلب المواليد تحمل صفات هذا الجين: صفراء سمينة ولديهاالكثير من المشاكل الصحية. أما عند تغذية الأم أثناء فترة الحمل بغذاء غنيّ بحمض الفوليك ومصادر الميثايل، انعكست النسبة وكانت أغلب المواليد سليمة لا تحمل صفات الجين رغم وجوده، وبدراسة الجينات تبين أنه تم تعطيله بسبب مجموعات الميثايل التي أضيفت على شريط الحمض النووي (DNA).
أما الطريقة الثالثة فهي عن طريق «أشرطة الحمض النووي RNA غير المشفرة» (Non-coding RNA)، حيث تلتصق بالجين غير المرغوب وتغطي عليه فلا يمكن ترجمته.
هذا باختصار شديد، وقد ذكرنا من قبل أن هذه الصفات تتأثر بالبيئة والظروف التي يتعرض لها الفرد، وأنها يمكن أن تُورَّث، وفي هذه الحالة تعد بمثابة رسالة تركها الأجداد والآباء لأبنائهم تُلخِّص خبرَتَهُم في التعامل مع الظروف وما مرُّوا به، ولعل هذا سبب في بقاء الكائنات الحية وتأقلمها مع ظروف الحياة جيلًا بعد جيل! ومن أقرب الأمثلة على ذلك دراسة أجريت في 2016 على اليهود الناجين من الهولوكوست بعد أن احتجزوا في المعسكرات النازية أو شهدوا التعذيب، وشملت الدراسة أيضًا أبناءهم وأحفادهم الذين لم يشهدوا الهولوكوست ووُلدوا بعده، كما شملت مجموعات من اليهود الذين كانوا خارج أوروبا أثناء الهولوكوست ولم يشهدوا أي تعذيب.قورنت التغيرات فوق الجينية المتحكمة في جين الهرمونات الانفعالية (Stress Hormones) في المجموعات الثلاثة. وجد الباحثون تغيُّرات واضحة عند من شهدوا الهولوكوست، ونفس التغيرات موجودة أيضًاعند ذريتهم التي لم تشهده، أما المجموعة التي لم تشهد الهولوكوست ولا أجدادها فكانت مختلفة عنهم في تمثيل هذا الجين!
لعلك لاحظت أن أساليب التحكم الثلاث التي ذكرناها تعتمد جميعها على تشغيل أو إيقاف الجين، لكن في عام 2008، نشر فريقبحثيّ من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا(MIT) نتائج مثيرة في مجلة نيتشر (Nature) تُوضّحأن أغلب الجينات البشرية (بنسبة 94%) يمكن أن تنتج صورًا مختلفة من البروتينات، بل يمكن للجين الواحد أن ينتج البروتين وعكسه، بحيث يمكن أن ينتج البروتين المسؤول عن تنشيط موت الخلية، ويمكن أيضًا أن ينتج البروتين المسؤول عن الحفاظ على حياتها.. نفس الجين! لتتخيل كيفية حدوث ذلك، اعتبر أن الجين مكونًا من حروف متتابعة كما يلي: (م س ت ق ي م).
قد تختار 4 أحرف وتترك حرفين (م ق ي م)، فتقرأها «مقيم»، وقد تقرأها (س ق ي م) «سقيم»، وقد تقرأها كلها (م س ت ق ي م) «مستقيم»، وكأنك لديك الأبجديات التي تشكل منها صورًا مختلفة حسب حاجتك! هذا بالضبط ما يحدث في الخلية، الجين الواحد يتكون من مجموعة مقاطع (Exons) هي الأبجديات التي تختار منهاالخلية لتنتج منتجًا يلبي احتياجها. آلية العمل والاختيار لازالت غير مفهومة، لكن المفهوم الآن أن الجينات هي كتيب يحتوي على شتى الأوامر التي يمكنها تشغيل هذه الخلية، هذه الأوامر مرنة تتأثر بكل ما تمر به في حياتك، ومن يتولى عجلة القيادة ويختار أي الأوامر تعمل وأيها يخمد فهو من يملك الزمام.
المصادر:
Phillips, T. (2008) The role of methylation in gene expression. Nature Education 1(1):116.
• 1 Jirtle R. (2012). Epigenetics: how genes and environment interact. Lecture delivered at the NIH director’s Wednesday afternoon lecture series. April 18, 2012, accessed on March 3rd, 2018. https://videocast.nih.gov/summary.asp?Live=10520&bhcp=1
• 2 Eric T. Wang, et. Al., (2008) Alternative isoform regulation in human tissue transcriptomes. Nature volume 456, pages 470–476. https://www.nature.com/articles/nature07509
• Matthews, H. R. “DNA Structure Prerequisite Information.” Biology Concept and Connections. Benjamin Cummings, California (1997).
• Waterland, R. A. & Jirtle, J. L. Transposable elements: targets for early nutritional effects on epigenetic gene regulation. Molecular and Cell Biology, 23, 5293 – 5300, (2003). http://mcb.asm.org/content/23/15/5293.full
• Holocaust Exposure Induced Intergenerational Effects on FKBP5 Methylation. Yehuda, Rachel et al. Biological Psychiatry , Volume 80, Issue 5 , 372 – 380 http://www.biologicalpsychiatryjournal.com/article/S0006-3223(15)00652-6/abstract