بقلم: فاطمة الزهراء عبد المجيد
رحلة ثعابين البحر: بين الماضي والحاضر
منذ قرابة 60-70 مليون سنة، عايشت ثعابينُ البحر الديناصورات، وتمكنت من التكيف أمام التحولات القارية، وتحولات المحيطات، وحتى الأحداث الجليدية (1). ونظرًا لوفرتها في أوروبا ومنطقة البحر الأبيض المتوسط، اعتاد القدماء على رؤيتها، لكن أعوَزتهم المعرفة الرصينة عن طبيعتها ودورة حياتها. لدرجة أن أرسطو ادَّعى نشأتها تلقائيًا عقب هطول الأمطار (2).
تعطينا نظرة أرسطو لمحة عن الطبيعة المناخية للعصور القديمة، والتي تكيفت معها ثعابين البحر بشكل كبير، على عكس ما نشهده اليوم من تغيرات مناخية حادة وعوامل بشرية وبيئية أدت إلى هبوط غير مسبوق في أعدادها حتى وصلت نسبتها إلى 1-5% فقط من تعدادها في سبعينات القرن الماضي (3).
ونظرًا لذلك، أدرجها «الاتحاد الدولي لحفظ الطبيعة» (The International Union for Conservation of Nature, IUCN) ضمن الأسماك «المهدَّدة بالانقراض» (Critically Endangered) منذ عام 2008 (4). الجدير بالذكر أنّ ثعابين البحر تضم تسعة عشر نوعًا وسلالة، من بينها «سمك الأنقليس» (European Eel) واسمه العلمي (Anguilla anguilla)، وهو الوحيد المهدد بالانقراض من بينها (1).
لسمك الأنقليس دورة حياة فريدة ومعقدة للغاية، نستطيع أن نستشف من خلالها قدرته الفائقة على التكيف عبر المسطحات المائية المختلفة. يُعتبَر الأنقليس أحد أنواع «السمك الرحال» (Catadromous)؛ فهو يهاجر في طوره الفضِّي من المياه العذبة والمياه منخفضة الملوحة -في أيسلندا وشمال الدول الاسكندنافية وشمال البحر الأبيض المتوسط وجنوبه- إلى منطقة تكاثره في «بحر سارجاسو» (Sargasso Sea) (5)، حيث تحدث عملية تفريخ البيوض، ومن ثَمَّ تموت الآباء.
يبدأ سمك الأنقليس حياته في المحيط الأطلسي المداري، حيث تفقس بيوضه ثم ترحل «اليرقات» (Leptocephali) في رحلة تستغرق من سنتين إلى ثلاث سنوات (5) حتى تصل إلى سواحل أوروبا وإفريقيا، فتتحول إلى طورها الزجاجي. بعد ذلك، تهاجر إلى الأنهار العذبة والبحيرات المالحة، وتستقر هناك لفترات طويلة قد تصل إلى عقود عديدة، تتحول خلالها إلى الطور الأصفر تدريجيًا. وأخيرًا، يعود سمك الأنقليس أدراجه إلى مياه المحيط للتكاثر (1).
بدأت أعداد سمك الأنقليس بالتناقص منذ بداية ثمانينات القرن الماضي (5)، ولم يدرك المجتمع العلمي حدة هذا التناقص إلا عام 1998 (6). ومنذ ذلك الحين، يحاول العلماء فهم الأسباب التي أدت إلى تدهور ذلك النوع على هذا النحو المتسارع. وقد قدموا تفسيرات عديدة، من المُرَجَّح لها مجتمعةً أن تكون قد أدت إلى هذا التدهور.
ومن بين هذه التفسيرات: الصيد الجائر، والإتجار غير المشروع (7)، وبناء السدود وطوربينات المياه، وحفر الترع المتفرعة من الأنهار، وفقدان الموائل، بالإضافة إلى الكائنات المفترسة من الأسماك والطيور، وعدوى الطفيليات، و«تذبذب شمال الأطلسي» (North Atlantic Oscillation)، والتلوث بالمواد الكيميائية والمعادن والبلاستيك، واحترار المحيطات وتغير المناخ.
سمك الأنقليس في شمال إفريقيا وأوروبا
في بادئ الأمر، وأثناء بحث العلماء لفهم طبيعة حياة سمك الأنقليس وأسباب تدهوره، قلَّلوا من شأن مساهمة مجموعات أسماك أنقليس البحر الأبيض المتوسط في التكاثر الذي يحدث في بحر سارجاسو (6)، وعلى هذا قلَّلوا من شأنها في التأثير على نجاة النوع ككل من الانقراض، إلى أن نجح فريق من العلماء عام 2016 في إثبات عبور سمك الأنقليس إلى مضيق جبل طارق، شاقًا طريقه -في وقت التزاوج- إلى بحر سارجاسو (7)، وبذلك يقع عبء الحفاظ على هذا النوع على قاطني دول حوض البحر الأبيض المتوسط كما يقع على قاطني أوروبا.
وتمثل مجموعات أسماك الأنقليس في مصر والمغرب أهم المجموعات المعبرة عن تدهور النوع في دول شمال إفريقيا (6،8)، يرجع ذلك إلى كثرة البحيرات في الجانب الشمالي من الدولتين، والأنهار التي تصب في البحر الأبيض المتوسط، وتُعَد جميعها من الموائل المهمة لسمك الأنقليس. وقد تأثرت موائله في المغرب خاصة بالجفاف الناتج عن تغير المناخ والتغيرات التي حدثت لـ«حركة وتوزيع المياه» (Hydrology) -منذ بداية التنمية الاقتصادية في ثمانينات القرن الماضي- إثر بناء السدود وشق الترع المتفرعة من الأنهار (8).
أمَّا في مصر، فيُعَد بناء السدود على نهر النيل وتلوث مياهه ومياه البحيرات بالمعادن الثقيلة والمواد السامة من أهم أسباب تدهوره؛ فالسدود عند المنبع تمنع مياه النهر من طرد الملوثات والمعادن إلى البحر، وبذلك تترسب في قاع النهر (9)، حيث تدفن أسماك الأنقليس نفسها نهارًا (10). وحديثًا كشف فريقٌ بحثي بقيادة الدكتور «عصام حجي» عن تعرض دلتا النيل إلى تهديدات وجودية، من بينها التلوث الشديد بالمعادن الثقيلة (9)، ومن تلك المعادن المترسبة: الكادميوم، والحديد، والنيكل، والكروم، والنحاس، والرصاص، والزنك (9).
أما في أوروبا، فتُعَد السدود وتوربينات المياه من أهم الأسباب التي أدت إلى موت مجموعات أسماك الأنقليس المهاجرة. حيث بلغت أعداد محطات توليد الطاقة الكهرومائية 24350 محطة في أوروبا وحدها عام 2012(10). يمكننا تصنيف العوامل التي أدت إلى تدهور الأنقليس إلى قسمين رئيسيين: المؤثرات البشرية، والمؤثرات الطبيعية. وتؤثر العوامل المندرجة تحت هذين التصنيفين بشدة على أربعة أطوار في حياة سمك الأنقليس: اليرقات، والطور الزجاجي، والطور الأصفر، والطور الفضي.
المؤثرات البشرية
يسبب الارتفاع غير المسبوق في مستويات تلوث مياه البحار والأنهار بالبلاستيك ومخلفات المصانع وترسبات المعادن الثقيلة و«الملوثات العضوية طويلة الأجل» (Persistent Organic Pollutants) و«العناصر الشحيحة» (Trace Elements) -مثل الزرنيخ والفضة والرصاص والكادميوم (1)– تدهورًا في القدرة الإنتاجية والتكاثرية لسمك الأنقليس، خاصة في طورها الأصفر الذي ترتفع فيه مستويات الدهون بطريقة طبيعية كي تملأ مخزونها من الطاقة التي تستهلكها فيما بعد في الهجرة للتكاثر بعد اكتمال نضجها الجنسي (11).
من شأن ذلك أن يفاقم آثار التلوث، حيث تستعيض الأسماك عن النمو بالتخلص من السموم، وبذلك تستنزف مخزونها من الطاقة، ومن ثَمَّ تزداد مدة مكوثها في المياه العذبة ومنخفضة الملوحة كي تعوض الطاقة المستهلَكة فيتأخر التكاثر (1)، أو أنها تستبق الهجرة قبل اكتمال نضجها وهي محملة بالسموم التي تنتقل فيما بعد إلى أمشاجها ثم إلى الصغار (1).
يُعَد تشتيت النظم البيئية وتجزئتها من المؤثرات البشرية المميتة لأسماك الأنقليس. وعليه، تفقد الأسماك موائلها التي تحتضنها وقت نموها وجاهزيتها للتكاثر قبيل تحولها إلى طورها الفضي (12). علاوة على ذلك، أُدخِلَت الطفيليات إلى سمك الأنقليس بطرق غير مباشرة (13) مثل التجارة غير المشروعة. ومن بين تلك الطفيليات: الديدان الخيطية، والبكتيريا المسببة للأمراض، والفيروسات (7).
في كرواتيا، سُجِّلَت إصابة أسماك الأنقليس في طورها الزجاجي -والمتحفَّظ عليها من التجارة غير المشروعة- بـ«فيروس إيفكس» (EVEX Virus)، مع ملاحظة ارتفاع في معدل الوفاة بينها (7). ومن المرجَّح أن هذا الفيروس يعوق هجرة الأسماك الفضية إلى مكان تكاثرها عن طريق إضعاف قدرتها على تحمل السباحة لمسافات طويلة حتى بحر سارجاسو (14).
ونتيجة للنقل التجاري لأسماك الأنقليس الزجاجية بغرض الاستهلاك عبر القارات بلا رقابة أو تحكم، تفشَّت فيها عدوى الديدان الطفيلية مسببة وفاتها في النهاية، حيث تجعلها عرضة للعدوى البكتيرية المميتة، خاصة عند نقص الأكسجين (15). وقد سُجِّلَت إصابات بتلك الديدان الطفيلية في مجموعات أسماك الأنقليس في أوروبا منذ عام 1985 (15). ثم سُجِّلَت عدواها في نهر النيل عام 1993 (16).
كما سُجِّل نوع جديد من الديدان الخيطية التي أصابت مجموعات سمك الأنقليس في ساحل قناة السويس عام 2013 (17). واقترح العلماء اسمًا لهذه الديدان وهو (Cucullanus Egyptae). وفي ذات العام، سُجِلَ نوع من الديدان المفلطَحة وحيدة الثقب التي تفشَّت عدواها لأسماك الأنقليس في بحيرة البرلس (18). ومع ذلك، يُعتبَر فقدان الموائل أحد الأسباب الرئيسية التي أدت إلى تناقص أعداد سمك الأنقليس في مجمَلها عالميًا، حيث يؤدي إلى إعاقة هجرتها للتكاثر (19)، فيما تُعتبَر الطفيليات والصيد الجائر من الأسباب الثانوية المحلية (8).
نتناول في المقال القادم الأسباب الطبيعية (المناخية والمحيطية) التي من شأنها أن تساهم بشكل كبير في تدهورها، وكذلك نقدم بعض المقترحات في كيفية الحفاظ على هذا النوع من الانقراض.
المصادر:
- https://doi.org/10.3390/fishes7050274
- Aristotle (1910). The History of Animals. Book VI. Clarendon Press: Oxford.
- Heredity (2009)103,3–4; doi:10.1038/hdy.2009.38
- Freyhof J, Kottelat M (2008). IUCN Red List of Threatened Species
- https://doi.org/10.1111/eff.12048
- https://doi.org/10.1093/icesjms/fsv084
- https://doi.org/10.3390/microorganisms10112208
- https://doi.org/10.1111/j.1467-2979.2010.00400.x
- https://doi.org/10.1029/2022EF002987
- https://www.nationalgeographic.com/animals/fish/facts/european-eel
- https://doi.org/10.1111/faf.12300
- https://www.nature.scot/plants-animals-and-fungi/fish/freshwater-fish/european-eel
- https://doi.org/10.1093/icesjms/fsv063
- https://doi.org/10.1016/j.cca.2005.01.011
- https://doi.org/10.1093/icesjms/47.3.391
- https://doi.org/10.1007/s00436-011-2459-4
- https://doi.org/10.1007/s00436-014-4016-4
- https://doi.org/10.1007/s00436-013-3502-4
- https://doi.org/10.1007/s10646-009-0424-0
- https://www.aqua.dtu.dk/english/news/nyhed?id=a3f8cdd9-190a-4cae-b115-437736317f5c
- https://news.mongabay.com/2019/12/moon-and-earths-magnetic-field-guide-european-eels-on-their-epic-migration/