قصة الدواء من الطبيعة إلى المختبر (التجربة والخطأ)

بقلم: د. سارة أحمد

في سباقه مع الحياة، ورغبته في البقاء، وبقدرته على التعلم والاكتشاف، سلك الإنسان طريقه باحثًا عن المأكل والمشرب، وباحثًا عن الدواء، فإذا هو طريقٌ طويل قضى فيه آلاف السنين. سنسير معه في هذه السلسلة حيثُ سار، إلى أن يحط رحاله منتهيًا إلى ما نحن عليه اليوم. وبداية القول: “تجربةٌ وخطأ”.

كيف اهتدى الإنسان إلى دوائه؟

وُجِد الإنسان وفي نفسه سعيٌ للبحث عن الأدوات التي من خلالها تستمر حياته، وكان الدواء -ولا زال- عنصرًا أساسيًا منها، ربما بدأ البحث عنه مع أول جُرحٍ في التاريخ، أو أول صداع رأسٍ أو ألمٍ بالمعدة! فانطلق الإنسان يكتشف البيئة المحدودة حوله، وكان أول ما لقي هو النبات، فأخذ يُجرب فيخطئ ويصيب، إلى أن تكوَّن لديه وعيٌ بأنَّ للنباتات خصائص علاجية تختلف من نبات لآخر، وانتقل هذا الوعي عبر الأجيال. ولكن بقي السؤال: كيف يعمل الدواء؟ وكيف يُعَد؟ كيف يؤثر على الجسم إيجابًا أو سلبًا؟ وكيف يحصل الشفاء؟ فاختلفت الإجابة بين العصور اعتمادًا على طبيعة العصر ومدى تطوره.

مرحلة ما قبل التاريخ .. الدواء باعتباره قوى خارقة!

تُشير الحفريات التي عُثِر عليها، ويرجع تاريخها إلى ما قبل الميلاد بنحو ٣٠ ألف سنة، إلى أنَّ شعوب ما قبل التاريخ جمعت النباتات لأغراض طبية، واكتشفت عددًا صغيرًا من الأدوية الفعالة. إلا أنَّ الإنسان القديم في ذلك الوقت تعامل مع الأمور التي لم يكن يجد لها مبررًا -مثل الكوارث البيئية- باعتبارها أمرًا خارقًا للطبيعة، وهو نفس المنطق الذي تعامل به مع الأمراض والنباتات الطبية؛ حيث اعتبر أنَّ لها قوى خارقة بإمكانها تغيير الحالة الجسدية. وعلى عكس ما يبدو لنا الآن، فإن المفهوم الذي توصلت إليه شعوب ما قبل التاريخ من وجود قوى خارجية تستطيع التأثير على وظائف الجسد الداخلية يُعَد أحد أعظم الإنجازات التي توصلت إليها البشرية عبر تاريخها.

تطور العلاج الدوائي وتداخله مع العلاج الروحي

في العصور القديمة حيث نشأت حضارتي مصر وبابل، خرج الدواء من مفهوم القوى الخارقة؛ فكان يُنظَر للنباتات الطبية بأنَّ لها خصائص علاجية تميزها وإن لم يُعرَف تحديدًا كيف تؤدي عملها. وقد تطور العلاج الدوائي خلال هاتين الحضارتين تطورًا كبيرًا وبخاصة في الحضارة المصرية، حيثُ احترف المصريون القدماء ممارسة الطب وتميزوا بمعرفة الجراحة والتشريح، وتمكنوا من معالجة الكثير من أمراض الأسنان والنساء والجهاز الهضمي، واضطرابات الجهاز البولي، كما تمكنوا من تشخيص مرض السكري والسرطان.

وظهر في ذلك الوقت مفهوم التخصصات الطبية، فقد كان منهم طبيب العيون، وطبيب الأمراض الباطنية، وطبيب الأسنان وغيرها من التخصصات. وأحرز المصريون القدماء أثناء ذلك تقدمًا هائلًا فيما يخص الدواء، فاكتشفوا عددًا كبيرًا من الأدوية وأعدوا بعض الأشكال الدوائية التي لا تزال تُستخدَم إلى الآن، مثل: التحاميل، والحبوب، والغسول، والحقن الشرجية، والمراهم. ولم تقتصر المستحضرات الطبية في وقتها على النباتات فحسب، وإنما أعدوا أدويةً من المنتجات الحيوانية والمعادن.

وقد ظهر أيضًا في هذه الفترة نوعٌ آخر من العلاج لا يعتمد على النباتات الطبية، وهو العلاج الروحي الذي يعتمد على التعاويذ والأحجار السحرية، وذلك لأنهم اعتقدوا أن الصحة والمرض ناتجان عن علاقة الإنسان بالكون من حوله بما فيه من بشر، وحيوانات، وأرواح طيبة وسيئة. وقد عرفنا ذلك من خلال البرديات التي عُثِر عليها وقد دوَّن القدماء فيها علمهم وسجلوا أحداث حياتهم اليومية.

أول تفسير للمرض، وأول تفسير لآلية عمل الدواء

كان المصريون القدماء يرون أن الجسم يحتوي على عدد كبير من الأوعية التي تربط بين أجزائه، وتحتوي على مواد مختلفة، مثل: الدم، والهواء، والسائل المنوي، والمخاط، والدموع. وترتبط هذه الأوعية ببعضها، كما يتحكم فيها القلب، وتتصل بخارج الجسم من خلال فتحات في عدة نقاط، مثل فتحة الشرج. وتتأثر صحة الإنسان بحالة هذه الأوعية، فيحدث المرض نتيجة لتضرر الأوعية بسبب مواد غريبة أو ضارة قد تدخل جسم المريض عبر الجروح أو الفتحات الطبيعية، ولذلك يعمل الطبيب على فحص حالة الأوعية عن طريق قياس نبض المريض، ثم إعطاء الأدوية التي تعاكس عمل المواد الضارة.

تراجعت حضارتا مصر وبابل شيئًا فشيئًا؛ فعلى الرغم من التقدم الهائل الذي حدث في الطب والدواء، والذي كان مناسبًا جدًا لأن يُبنَى عليه في الأجيال التالية، انقطعت إسهامات الحضارتين عند هذا الحد. ازدهرت بعد ذلك حضارة الإغريق التي قدمت مفهومًا جديدًا في الطب، حيث نقلت مفهوم التوازن الذي لاحظته في البيئة إلى جسم الإنسان، فربطت العناصر الأساسية للطبيعة (وهي: الأرض، والهواء، والنار، والماء) بأربعة عناصر في جسم الإنسان (العصارة السوداء، والدم، والعصارة الصفراء، والبلغم)، واعتبرت أن أي اختلال في توازن العناصر الأربع يؤدي إلى نشأة الأمراض، وأن الدواء يُعطَى لاستعادة هذا التوازن فيحصل الشفاء. ومع ذلك، اعتمد الإغريق ما توصلت إليه الشعوب السابقة من تضافر العلاج الروحي مع العلاج الدوائي لضرورة الشفاء.

تلا ذلك منهج آخر تبعه الطبيب اليوناني «جالينوس» يصف فيه طبيعة المرض، ثم يُعطي دواءً معاكسًا لهذه الطبيعة. فعلى سبيل المثال: إذا كان هناك التهاب خارجي، فإنه يصف لعلاجه الخِيار بسبب طبيعته الباردة الهادئة. وإلى جانب ذلك، استمر جالنيوس في اتباع منهج التوازن بين عناصر الجسم الرئيسة. وقد وصل الطب إلى ذروته في عصره، إلا أنَّ أتباعه استمروا في تقليده وعدم تقديم أي جديد.

كانت تلك أهم المحطات التي مرَّ بها الدواء في العصور القديمة، وظلَّ الأمر على هذه الحال إلى أن ظهرت علوم الكيمياء؛ فبدأت بالخرافات وانتهت إلى ما نحن عليه اليوم. وقد يحتاج الأمر إلى تفصيل نخصص له مقالة قادمة.

المصادر:

Exit mobile version