بقلم: عبير غانم
أصبحت تربية الأحياء المائية مصدرًا مهمًا للغذاء لتلبية احتياجات الأعداد المتزايدة من سكان العالم [1]. إنها أحد أسرع قطاعات الإنتاج الغذائي نموًا، حيث يتم إنتاج واستخدام أكثر من 70 مليون طن سنويًا بصافي نفايات يصل مجموعها إلى أكثر من 20 مليون طن، وينتهي المطاف بمعظم هذه المنتجات الثانوية (مثل الزعانف والقشور والجلود والأحشاء) في مكبات النفايات أو يتم حرقها. وقليلًا ما يُعاد تدويرها إلى علف سمكي منخفض القيمة أو إلى أسمدة [2]. السؤال الآن: هل حقًا يمكن أن تساعدنا هذه النفايات في تعويض وإنماء أنسجة العظام المفقودة بسبب المرض أو الإصابة؟ في الواقع، إن الكمية الهائلة من المنتجات الثانوية لتربية الأحياء المائية تحتوي على العديد من المركبات الفعالة بيولوجيًا (مثل: الببتيدات والكولاجين والدهون وفوسفات الكالسيوم) والتي يمكن استغلالها في
حصل فريق البحث في «جامعة نانيانغ التكنولوجية بسنغافورة» (NTU Singapore) على براءات اختراع في مجال تطبيقات التئام الجروح وهندسة أنسجة العظام، فقد طور أعضاء الفريق مادة حيوية جديدة مصنوعة بالكامل من جلود الضفادع وقشور الأسماك، والتي تحتوي على نفس المركبات الأساسية للعظام الطبيعية. ونُشِرت نتائج البحث في مجلة «علوم وهندسة المواد» (Materials Science and Engineering).
يعتمد بحث مجموعة عمل جامعة (NTU) على مجال الاستدامة ويتماشى مع نهج إعادة التدوير في سنغافورة نحو دولة خالية من النفايات، حيث يقدر الاستهلاك السنوي من لحم الضفادع والأسماك بحوالي 100 مليون كيلوجرام، مما يجعل جلود الضفادع والأسماك من أكبر نفايات تربية الأحياء المائية بالدولة [4].
كيف تستخرج هذه المادة الحيوية؟
لصنع المادة الحيوية، قام الفريق أولًا باستخراج مادتين أساسيتين:
الأولى: «تروبوكولاجين من النوع الأول» (Type 1 Tropocollagen) -وهي الجزيئات الأولية التي تشكل ألياف الكولاجين- من جلود «الضفادع الأمريكية» (American bullfrogs) عن طريق إزالة الشوائب من جلد الضفدع وخلطها لتكوين عجينة كولاجينية سميكة، ثم تخفيفها بالماء، ثم استخلاص الكولاجين من هذا الخليط، ويحقق ذلك إنتاجًا يقارب 70٪، وهو أعلى عائد أفادت التقارير بالحصول عليه من جلد الضفادع على الإطلاق [3].
الثانية: «هيدروكسي الأباتيت» (Hydroxyapatite, HA)، وهي مركب من فوسفات الكالسيوم مُستخلصٌ من جلود «أسماك رأس الأفعى» (Snakehead Fish)، والمعروفة باسم أسماك «التومان» (Toman) من خلال «التكليس» (Calcination)، وهي عملية تنقية تتطلب حرارة عالية لإزالة المادة العضوية، ثم تجفيفها بالهواء. تم تصنيع المادة الحيوية عن طريق إضافة مسحوق (HA) إلى الكولاجين المستخرج، ثم صبه في قالب لإنتاج «سقالة» أو «دعامة» (Scaffold) مسامية ثلاثية الأبعاد. وبما أن الكولاجين وهيدروكسي الأباتيت مكونان سائدان موجودان في العظام، فهما يمنحان المادة الحيوية بنية قوية وصلبة لتعزيز ارتباط «بانيات العظام» (Osteoblasts) لتجديد العظام. وقد استغرقت هذه العملية بأكملها أقل من أسبوعين، ويعتقد الفريق أنه يمكن تقليل مدتها وتوسيع نطاقها.
هل هذه المادة الحيوية آمنة للاستخدام البشري؟
بشكل عام، هناك بعض الخصائص التي يجب توافرها في مادة أي دعامة تُستخدَم في التئام العظام، وهي أن تكون كالآتي:
- غير سامة لضمان توافق حيوي جيد.
- مسامية لتبادل المغذيات/النفايات الأيضية بين الخلايا.
- قوية من الناحية الميكانيكية والبنيوية لتحمل «الظروف الفسيولوجية» (Physiological Loading Conditions)
- «محفزة لنمو العظام» (Osteoconductive) لاستعادة القدرة على التئام العظام.
ولتقييم الأداء البيولوجي للدعامة المصنوعة من المواد الحيوية، زرع العلماء الخلايا المكونة للعظام على الدعامة، ووجدوا أن عدد الخلايا زاد بشكل ملحوظ بعد أسبوع، حيث تكاثفت الخلايا وارتبطت بشكل متساوٍ حول الدعامة، وهو مؤشر على أن الدعامة يمكن أن تعزز الأنشطة الخلوية أو تؤدي في النهاية إلى تكوين الأنسجة.
تم اختبار المادة الحيوية أيضًا لميلها للتسبب في التهاب مناعي، وهو أمر شائع بعد زرع مادة حيوية في الجسم، ووجد العلماء أن مستوى التعبير عن الجينات المسببة للالتهابات (مثل جين IL6) أقل بـ50 مرة على الأقل عند استخدام تلك المادة الحيوية مقارنةً بالمجموعة التي تمت معالجتها بمادة «الذيفان الداخلي» (Endotoxins) (مركب معروف بتحفيز الاستجابة المناعية) .[5]
جعل الاختبار سالف الذكر المركز الوطني لطب الأسنان في سنغافورة متحمسًا لاستخدام جلد الضفدع -باعتباره مادة حيوية طبيعية لتجديد الأنسجة- في العديد من التطبيقات المحتملة في مجال طب الأسنان؛ بدءًا بتجديد أنسجة اللثة في أمراض اللثة، والعظام لزراعة الأسنان، وصولًا إلى عظام الفك بعد جراحة استئصال الأورام.
للمضي قدمًا، يأمل فريق البحث العمل مع شركاء إكلينيكيين وصناعيين في الدراسات على الحيوانات لمعرفة كيفية استجابة الأنسجة في الجسم لهذه المادة الحيوية على المدى الطويل، وقدرة المادة على إصلاح عيوب العظام والجروح الجلدية، وكذلك لجعل التيار التكنولوجي لتحويل النفايات إلى موارد أقرب إلى التسويق التجاري.
في حين نواصل استكشاف أسرار الطبيعة والاستلهام من تصاميمها المعقدة، يمكننا أن نتخيل مستقبلًا مذهلًا حيث يتمكن الأفراد الذين يعانون من الكسور أو أمراض العظام التنكُّسية المزمنة من التعافي بشكل أسرع وأكثر فعالية. إن استغلال هذه الموارد الطبيعية بشكل مستدام يمثل خطوة هامة نحو الحفاظ على توازن البيئة والحفاظ على جمالها وتنوعها؛ فهذا التطور في المواد الحيوية يُجسِّد رؤيةً مستقبليةً مشرقة، حيث يُمَكِّننا التكامل بين علماء المواد والأطباء والمهندسين من تحقيق اختراقات ثورية في مجال الطب والتنمية المستدامة.
المصادر:
1) http://www.fao.org/state-of-fisheries-aquaculture
2) https://doi.org/10.1007/s12649-019-00739-1
3) https://www.sciencedirect.com/science/article/pii/S0928493121002435?via%3Dihub