عن براءات الاختراع وحقوق الملكية
أهلًا بك أيها القارئ العزيز! هل تساءلت يومًا ما إذا كان هناك فارق بين صاحب حقوق الملكية الفكرية أو المُسجِّل لبراءة اختراع، أم أن كليهما نفس الشيء؟ لماذا تهتم شركات التصنيع والنشر والدعاية وغيرها بأن تكون لديها براءات اختراع أو حقوق ملكية؟ ماذا تمثل هذه الأصول للشركات مقارنةً بأصول ملكيتها الأخرى من أدوات ونظم وغيرها؟ كل هذه الأسئلة وأكثر نتناولها في هذا المقال مع التركيز بدرجة أكبر على براءات الاختراع.
لنبدأ ببعض التعريفات البسيطة كي نفهم أكثر. يجب التنويه بأنه قد تختلف المدد الزمنية المذكورة أدناه قليلًا أو كثيرًا من بلد لآخر، والمرجع في هذا المقال هو المدد المستخدمة في مكتب براءات الاختراع الأمريكي.
«براءة الاختراع» (Patent): تعطي الحق لصاحبها في تصنيع منتج معين وبيعه واستخدامه لمدة 20 عامًا [1]. قد يكون هذا المنتج شيئًا ملموسًا تستطيع أن تمسكه بيدك، أو مجرد خوارزمية، أو مركبًا كيميائيًا، أو طريقة تصميم، أو استثمارًا له فوائد معينة، أو أشياءً أخرى. ويجب أن نفرق هنا بين المخترع، وصاحب الحق في استخدام هذا الاختراع. ففي كثير من الأحيان -وخاصة في عالم الشركات والجامعات والمؤسسات- يعود الحق في استعمال الاختراع للشركة أو المؤسسة وليس للمخترع، طبقًا لترتيبات قانونية معينة. من المفيد أيضًا التنويه بأن عملية الحصول على حق براءة اختراع من مكتب براءات الاختراع الأمريكي هي عملية مكلفة للغاية، ولذلك تحرص المؤسسات على اختيار ما تريد تسجيله كبراءة اختراع بعناية.
لكن، هل تسجيل براءة الاختراع يعني بالضرورة القدرة على تصنيع المنتج وبيعه بفرض توافر الإمكانيات لفعل ذلك؟ الإجابة هي لا! وسنعود للإجابة على هذا السؤال بالتفصيل فيما بعد. لنتحول الآن إلى تعريف حقوق المكلية الفكرية.
«حقوق الملكية الفكرية» (Copyrights): تعطي صاحبها الحق في نشر الأعمال الأدبية والفنية وبيعها والتحكم فيها، وهذا الحق يمتد بطول عمر صاحب العمل، إضافة إلى 70 عامًا أخرى [1]. ومثل براءة الاختراع، قد يكون هذا الحق ملكًا للمؤسسة وليس للفرد المؤلف أو الرسام أو المغني أو غيرهم. يجب التنويه هنا إلى أن مفهوم الأعمال الأدبية والفنية مفهوم واسع قد يشمل الأفلام والموسيقي فضلًا عن الكتب والروايات، بل حتى الصور والمطبوعات الدعائية قد تدخل في هذا الإطار.
عندما كنت صغيرًا، كنت أجد فكرة براءات الاختراع وحقوق الملكية أمرًا محيرًا. ألا يجب أن تكون المعرفة مشاعًا بين البشر؟ لماذا يتم حكرها على شركة أو مؤسسة أو بلد معينة؟ للإجابة على ذلك، يجب أن نعرف السبب وراء مثل هذه القوانين.
الغرض من براءات الاختراع وحقوق الملكية هو خلق بيئة وميزات تنافسية للشركات والمؤسسات والأفراد للدفع بعجلة التطوير والإبداع. فإذا لم توجد آلية مثل براءة الاختراع، لماذا قد تنفق شركة ما عشرات ومئات الملايين من الدولارات على عمليات البحث والتطوير مثلًا إن لم تكن ستنتفع بها لاحقًا؟ فعمليات البحث والتطوير قد تستغرق عقودًا إلى أن تصل إلى نتائج يمكن تطبيقها عمليًا، وفي أغلب الأحيان لا ترى مشاريع البحث والتطوير النور على الرغم من الجهد المبذول. وكمثال على مقدار الإنفاق على البحث والتطوير، يمكنك أن تتصور كيف أنفقت «مختبرات بيل» (Bell Labs) [2] ما يقارب مليونَي دولار في ستينيات القرن العشرين لتطوير تجربة فكرة الاتصال عبر الأقمار الصناعية [2]، وأتبعتها بـ 3 ملايين أخرى، وهو ما يقارب القوة الشرائية لـ 30 مليون دولار في وقتنا الحالي، بالتعاون مع «وكالة ناسا» (NASA) لإطلاق مشروع القمر الصناعي النشط كأول تجربة للاتصال عبر الأقمار الصناعية [3]، وكيف أنها استثمرت لأكثر من عقد من الزمان في تقنيات أخرى لم ترَ النور أو رأته لمدة قصيرة من الزمن.
ما تعنيه الفقرة السابقة أنه بدون وجود عمليات البحث والتطوير لن نجد حلًا لكثير من الأمراض المنتشرة، أو نستطيع حتى أن نقرأ هذا المقال الذي هو نتاج عقود من الأبحاث المتعلقة بعمليات الاتصالات والرقمنة وتطويرها حتى أمكننا الوصول إلى هذه المرحلة، فبدون وجود الحوافز وما يضمن إمكانية استخدام هذه الاستثمارات الضخمة، لن يغامر المستثمرون والشركات في عمليات التطوير المكلِّفة.
ربما ستصبح أهمية هذا الأمر أكثر وضوحًا حينما تعلم أن القيمة السوقية لكثير من الشركات تتمثل في أصولها غير الملموسة مثل براءات الاختراع وغيرها من النوايا الحسنة، والتي تمثل 40.5% من الأصول المملوكة في الولايات المتحدة [4].
من الجدير بالذكر أيضًا أن حاملي براءات الاختراع ليس عليهم بالضرورة تحويل أفكارهم إلى منتجات كي يبيعوها، بل يمكنهم أن يبيعوا أو يتيحوا حق استخدام الفكرة مقابل عائد مادي معين. لا يتطلب الأمر عادةً في براءات الاختراع أن تكون الفكرة شديدة التعقيد لكي تُقبَل، بل يجب أن تحقق معايير معينة ككونها جديدة ومفيدة وغير بديهية بشكل مباشر للمختصين. فإذا كانت الفكرة عبارة عن ثقب في علبة أو وعاء ما بشكل له فائدة محددة وبطريقة غير بديهية ولم يدَّعِ أحد ملكية الفكرة من قبل، فهذا كافٍ للحصول على براءة اختراع. في معظم الأوقات، يجب ترك تحديد شرط عدم البديهية هذا للمحامين المختصين، وكل ما عليك فعله هو أن تأتي بفكرة جديدة مفيدة وأن تكون قادرًا على دفع تكاليف تسجيل براءة الاختراع في مكتب براءات الاختراع المُستهدَف.
لنعد إلى سؤالنا السابق: هل تسجيل براءة الاختراع يعني بالضرورة القدرة على تصنيع المنتج وبيعه؟
حتى لو كانت لديك الإمكانيات والموارد الممكنة لتصنيع الاختراع وتحويله إلى منتج، فقد لا يمكنك ذلك! لكي نفهم الأمر، لا بد أن نفرق بين «إمكانية تسجيل براءة الاختراع» (Patentability) و«الحرية في العمل والاستخدام والتصنيع» (Freedom to Operate, FTO)؛ فقد تحصل على تسجيل براءة اختراع لفكرة معينة، ولكن لا يمكنك استخدامها. لنضرب مثالًا تخيليًا بالقلم الرصاص، ولنفترض أني سجلت براءة اختراع للقلم رصاص بصفته قطعة من الرصاص تحيط بها قطعة من الخشب أو أي مادة أخرى بأي سمك أو لون، ويمكن استخدامها في الكتابة أو الرسم أو أي عملية للتدوين بأي شكل ممكن. لنفترض لاحقًا أنك، كشخص آخر، قد أتيت وادعيت أنك اخترعت ممحاة يمكن تركيبها في أي جانب من جوانب القلم الرصاص أو حتى في القلم نفسه، ويمكنها أن تسرع من الحصول على منتج كتابي صحيح، وتحسن من الشكل النهائي للمدونة، وتساعد على تخفيض الأوراق المطلوبة لكتابة شيء ما. بهذه المزايا المُدَّعاة، يمكنك أن تحصل على براءة اختراع هذه الممحاة، ولكن لا يمكنك أن تقوم بتصنيع وبيع الممحاة مركبةً على القلم الرصاص إلا بالحصول على ترخيص مني بصفتي المخترع الأصلي للقلم الرصاص أو بشراء براءة الاختراع مني! في نفس الوقت لا يمكنني وضع ممحاتك على القلم الرصاص إلا بعد الحصول على ترخيص أو شراء براءة اختراع الممحاة منك.
هذا هو الفرق بين إمكانية تسجيل براءة الاختراع وحرية العمل والاستخدام. لكي تكون لك الحرية في العمل بما اخترعت، يجب أن تقوم بعملية تحليل تقنية وقانونية دقيقة لبراءات الاختراع المسجلة والمتعلقة باختراعك الأصلي حتى تحدد بدقة إمكانية الحرية في العمل والاستخدام. إن الخطأ في الاستخدام وخرق براءة اختراع لمخترع آخر قد تكون عملية شديدة التكلفة، تتراوح تبعاتها ما بين التكاليف والتسوية القانونية إلى وقف جميع عمليات الإنتاج والدعاية الخاصة بشركتك، الأمر الذي يعني الكثير من الأموال المهدورة بالنسبة إلى المخطئ.
حق الانتفاع بين النظرية والتطبيق:
على الرغم من أن الهدف الأساسي من براءة الاختراع هو حق الانتفاع، لكنه يُستخدَم في كثير من الأحيان كوسيلة منع من قِبَل كثير من الشركات، إذ لا تتحول كل الأفكار التي يتم تسجيلها إلى منتجات. ففي كثير من الأحيان تسجل الشركات الاختراعات لمنع الشركات الأخرى من استخدام هذه الأفكار وللمحافظة على حصتها السوقية، وعندما تقوم هي نفسها بتحديد مصير الفكرة أو تطويرها أكثر للوصول بها إلى منتج قابل للاستخدام، فإنها قد تخلق ميزة تنافسية تمكِّنها من دخول أسواق جديدة أو رفع سعر منتجاتها إذا كانت تحقق فوائد أكثر. ومرة أخرى، حتى لو لم تتحول الفكرة المسجلة إلى منتج، فهي قد تدر فوائد مادية من خلال منح التراخيص لشركات أخرى أو حتى بيعها بالكامل. وهذا يأخذنا إلى سؤال آخر وهو: ما مدى إمكانية بيع فكرة مسجلة أو تحويلها إلى منتج سريعًا؟ وهذا ما تجيب عليه الفقرة التالية.
في مرحلة ما من حياتي سمعت أحد أساتذتي وهو يتمنى أن يلفت اختراعه الذي سجله نظر إحدى الشركات، ويتخيل ما سيعود عليه من المنافع المادية إذا ما رأت فكرته النور. من الأشياء التي تعلمتها لاحقًا هو «مستوى الجاهزية التقنية» (Technology Readiness Level) الذي تتراوح درجاته من 1 إلى 9 حسب مرحلة النضج التقني، ويمكنك أن تجد مثالًا على استخدام وكالة ناسا لهذا الإطار في المرجع [5].
على حسب التخصص، تختلف طبيعة العمل والتركيز على درجة معينة من النضج التقني، فإذا كنت في تخصص نظري، كالفيزياء النظرية مثلًا، فغالبًا ما سيكون عملك في المستوى الأول إلى الثالث ويتوقف عند الصياغة النظرية للفكرة، وإذا كنت في تخصص تطبيقي فربما يكون عملك في المستوى الثالث إلى السادس وينتهي بعمل نموذج الفكرة وتجربته في بيئة مناسبة. لكن لكي تصل إلى مرحلة المنتَج، يجب أن تكون في المستوى التاسع من النضج التقني، ثم تنتقل لاحقًا إلى وحدات التصنيع لكي تعمل على حل مشكلات الإنتاج ومن ثم التوزيع، إلى آخره.
في كثير من الأحيان، إذا كانت أبحاث السوق إيجابية بخصوص تقنية معينة وإمكانية تحقيق أرباح كبيرة، فإن الشركات لا تبحث عن تراخيص براءات اختراع، ولكن تقوم بعمل شراكات أو عمليات استحواذ على شركات صغيرة أو ناشئة تكون في هذه اللحظة قد وصلت إلى مرحلة متطورة من تجربة وإطلاق الفكرة. الهدف من ذلك هو تسريع عملية الوصول للسوق والحصول على حصة سوقية كبيرة، مما يحقق ميزات تنافسية على المستوى البعيد. وفي كثير من الأحيان أيضًا تعمل الشركات أو المؤسسات كحاضنة تقنية، حتى تساعد الأفكار على الوصول إلى مرحلة النضج التقني المطلوب.
في الختام يجب أن نعرف أن براءة الاختراع والملكية الفكرية تلعبان دورًا كبيرًا كحوافز لعمليات الإبداع المختلفة التي يمكن أن يقوم بها الأفراد والمؤسسات، كما أنهما تمثلان على المستوى الاقتصادي جزءًا كبيرًا من الأصول المملوكة للشركات. أيضًا، هناك فارق بين الفكرة نفسها وتسجيلها كبراءة اختراع، والحرية في العمل بها واستخدامها، وأخيرًا عملية وصولها إلى منتج ناضج تقنيًا يمكن للمستخدمين التعامل معه.