دراسة الخصائص الميكانيكية
وجهة نظر جديدة لفهم الوظائف الحيوية
يرتبط مفهوم التركيب بالوظيفة، لذلك نسعى دائمًا لمعرفة تركيب الأجزاء المختلفة للكائنات الحية لمحاولة فهم الوظيفة التي تقوم بها. طور العلماء العديد من الأدوات والتقنيات لفهم تراكيب الكائنات الحية، وأهم هذه الأدوات «المجهر» (Microscope). ساهم العلماء في صناعة أنواع متطورة من المجاهر لكي نستطيع من خلالها الكشف عن مستويات وتراكيب مختلفة من الكائن الحي؛ حيث تمكنَّا من الرؤية على مستوى العضو والنسيج والخلية أيضًا. وهذه ليست النهاية؛ بل تم تطوير أنواع أكثر تعقيدًا يمكنها الكشف عن الجزيئات الحيوية -داخل الخلية البيولوجية- مثل البروتينات. ولكن السؤال: هل فهم الخصائص الشكلية أو المورفولوجية (Morphological Features) للتركيب الحيوي كافٍ لفهم الوظيفة الخاصة به؟
الخصائص الميكانيكية للأنسجة الحية
تمتلك «الخصائص الميكانيكية» (Mechanical Properties) مثل «الصلابة» (Stiffness) و«المرونة» (Elasticity) و«الانسيابية» (Viscosity) دورًا هامًا في تحديد الوظيفة البيولوجية للخلايا والأنسجة. فعلى سبيل المثال: تمثل الخصائص المرتبطة بالانسيابية والمرونة دورًا هامًا في «تمايز الخلايا» (Cell Differentiation) و«الهجرة الخلوية» (Cell Migration). تحدد هذه الخصائص كذلك سلوك الخلية تجاه القوى الفيزيائية التي تتعرض لها في البيئة المحيطة، مثل قوة الضغط، وحركة السوائل داخل الخلية.
يرتبط التغير في صلابة الخلية أيضًا بمدى خطورة الأورام المرتبطة بالخلايا المناعية وخلايا النسيج الطلائي. أما على مستوى النسيج، تمتلك الخصائص الميكانيكية دورًا بارزًا في تحديد شكل النسيج وترتيب الخلايا بداخله، وتؤثر بشكل كبير على تطور بعض الأمراض، مثل السرطان، وتصلب الشرايين، وبعض الأمراض المرتبطة بالعين.
مجهر بريلوين
تم تطوير تقنية «طيف بريلوين» (Brillouin Spectroscopy) في الأساس لاستخدامها في تخصص علوم المواد لفهم الخصائص الميكانيكية للمادة. مع بداية استخدام هذه التقنية في علم الأحياء -قبل عقد ونصف من الزمن- عن طريق دمجها مع «المجهر متحد البؤرة» (Confocal Microscopy)، ظهر «مجهر بريلوين» (Brillouin Microscopy)؛ الأداة التي يمكن من خلالها تحليل وفحص الخصائص الميكانيكية للمادة الحية في شكل ثلاثي الأبعاد دون اتصال مباشر مع العينة، ودون استخدام أي أصباغ، وعلى مستوى عالٍ من الدقة.
تعتمد هذه التقنية على عملية فيزيائية يُطلَق عليها «تناثُر الضوء لبريلوين» (Brillouin Light Scattering)، والتي تنتج عن تفاعل الضوء مع التغير في كثافة المادة نتيجة للتغيرات في درجات الحرارة. يمكن وصف تغيرات الكثافة الحرارية هذه على أنها موجات صوتية ميكروسكوبية يُطلَق عليها «الفينونات» (Phenons). تُعتبَر الفينونات شبكة تتناثر عليها بعض فوتونات شعاع الضوء الساقط -شعاع ليزر مثلًا- على العينة، يُحدِث هذا التناثر تغييرًا في تردد طيف شعاع الضوء، والذي يُعتبَر توصيفًا فريدًا للخصائص الميكانيكية للمادة الحية.
تطبيقات طبية
لم تقف استخدامات مجهر بريلوين فقط عند العلوم الأساسية، لكنه ساهم وبشكل قوي في تطبيقات الطب الحيوي، والتي يمكن أن نذكر من أهمها:
- تشخيص أمراض العيون
يلعب المجهر دورًا بارزًا في طب العيون عن طريق توصيف الخصائص الميكانيكية لطبقة القرنية لبعض الحالات المرضية، مثل «القرنية المخروطية» (Keratoconus). يرتبط هذا المرض بتناقص سُمك القرنية وزيادة انحنائها، ويحدث بسبب تدهور في الخصائص الميكانيكية لأنسجة القرنية، حيث تكون القرنية السليمة أكثر قوة بفضل ألياف الكولاجين في الطبقة المخاطية التي تحافظ على ضغط السائل داخل العين، على عكس القرنية المصابة بالمرض، حيث تُظهر ترتيبًا مختلفًا لألياف الكولاجين الذي يسبب ضعفًا ينتج عنه تغير في الشكل. يأتي هنا دور مجهر بريلوين في قدرته على قياس فقدان القوة الميكانيكية للقرنية بشكل مباشر داخل الكائن الحي، وتشير الدراسات إلى إمكانية استخدام هذه التقنية في قياس التغيرات الحادثة في عدسة العين بما توفره من علاجات جديدة في هذا المجال.
- أمراض القلب والأوعية الدموية
لا يعتمد عمل القلب بشكل سليم فقط على قدرته على انقباض وانبساط الألياف العضلية، لكن تلعب الخصائص الميكانيكية دورًا في هذه العملية؛ فالطريقة التي ينقبض بها القلب ويقوم بإنتاج قوة الضخ يتم تحديدها من خلال الخصائص الميكانيكية لأنسجة القلب. وعندما يحدث خلل في هذه الخصائص، تبدأ أمراض القلب بالظهور، وقد تنشأ عن تغيير في سمك وصلابة أنسجة القلب، ومن ثَمَّ تؤدي إلى خلل في الوظيفة.
رؤى مستقبلية لهذه التقنية
من وجهة نظر بيولوجية وطبية، فتح مجهر بريلوين آفاقًا فكرية مثيرة للاهتمام على مستوى البحث في العلوم الأساسية، وعلى مستوى التجارب السريرية والتشخيص، كما أظهر قدرته على رصد الخصائص الميكانيكية في نمو الكائنات الحية وتكوين الأعضاء الخاصة بها، بالإضافة إلى فهم تطور الأمراض. إن دمج تقنية بريلوين مع تقنيات أخرى قادرة على إجراء تعديلات على المستوى الجزيئي سوف يوضح إلى أي مدى يؤثر ارتباط الخلايا مع بعضها البعض (Cell Adhesion) على خصائص المرونة بالنسبة للنسيج، والذي يلعب دورًا كبيرًا في «عملية التشكل» (Morphogenesis).
وفي حالة اتخاذ بعض الألياف داخل الخلية وضعيات يمكن أن يصدر من خلالها موجات صوتية، سوف تسمح هذه الفكرة برؤية الهيكل الخلوي المُعاد ترتيبُه، والإجابة عن أسئلة مرتبطة بالانقسام الخلوي وحركة الخلايا. أما على المستوى الطبي، تُستخدَم التقنية في تشخيص مرض القرنية المخروطية، ويتم تطويرها الآن لاستخدامها في تشخيص بعض الأمراض المرتبطة بالعين مثل المياه الزرقاء (Glaucoma)، ويمكن استخدامها أيضًا في تشخيص أمراض القلب وبعض أنواع السرطان.
لا خلاف على أن مجهر بريلوين فتح الباب على مصراعيه أمام «علم الأحياء الميكانيكي» (Mechanobiology)، وهو المجال الذي يتساءل عن كيفية تأثير الخصائص الميكانيكية على وظائف أنسجة الكائنات الحية. لكن ومثل أي تقنية جديدة، ما زال المجهر يواجه بعض التحديات التقنية التي تعيقه عن التقدم، بالإضافة إلى أن النتائج التي يتم الحصول عليها حول وظائف الخصائص الميكانيكية للكائنات الحية لا زالت قيد النقاش، لكن ما لا يمكن تجاهله أن قدرة المجهر على عرض الخصائص الميكانيكية للكائنات الحية بشكل مباشر توفر وجهة نظر فريدة لفهم الوظائف الحيوية.
المصادر
Brillouin microscopy. (2024). Nature Reviews Methods Primers, 4(1). https://doi.org/10.1038/s43586-024-00295-6
Prevedel, R., Diz-Muñoz, A., Ruocco, G., & Antonacci, G. (2019). Brillouin microscopy: An emerging tool for Mechanobiology. Nature Methods, 16(10), 969–977. https://doi.org/10.1038/s41592-019-0543-3