مقدمة
تأسس علم الأحياء الدقيقة الذي يدرس الكائنات الحية متناهية الصغر منذ ما يقارب الثلاثمائة عام، خلافًا لعلوم أخرى كالكيمياء ووظائف الأعضاء والتشريح التي يمكن تعقب دراستها لآلاف السنين. فعلم الأحياء الدقيقة وُلِد نتيجة للتطور في علم البصريات في القرن السابع عشر. وشكلت مشاهدات «أنطوني فان ليفينهوك» (Antonie Van Leeuwenhoek) -الذي كان مولعًا باستخدام مجهره الخاص- في نهايات القرن السابع عشر لعالم الميكروبات انطلاقًا لعدد من التساؤلات عن أصل الكائنات الدقيقة وطرق التعرف عليها وطبيعتها. وقد تنافس كثير من علماء القرن التاسع عشر في الوصول أولًا لإجابات هذه الأسئلة. وظهر كل من «لويس باستور» Louis Pasteur)) و«روبرت كوخ» (Robert Koch) كاثنين من أهم القوى المؤثرة. وقد شكلت المنافسة بينهما، التي أشعلها الفخر الوطني والمنافسة المستمرة بين فرنسا وألمانيا، أحد أشد المنافسات وأشهرها في عالم الأحياء الدقيقة، وربما العلوم الطبيعية كلها. فقد اخترع كل منهما طريقة لتطوير الأمصال لقتل البكتيريا، وسبق «باستور» منافسه بتدمير أحد أهم المعتقدات الراسخة في المجتمع العلمي حينئذ وهو «التولد الذاتي» (Spontaneous Generation). وكان لـ «جوخ» فرضياته التي ساعدت في التعرف على أسباب عدد من الأمراض المعدية عن طريق زراعة الكائنات الدقيقة في مزرعة من المغذيات. وقد استطاع العلماء بمساعدة كثير من اكتشافاتهما تسجيل عدد مهول من الميكروبات.
نتيجة لذلك، احتاج المجتمع العلمي إلى تعديل التقسيم الأرسطي للكائنات الحية كنباتات وحيوانات، فظهرت العتائق والبكتيريا وحقيقيات النواة بدلًا من التصنيف القديم، ووضع العلماء طرقًا مختلفة لتصنيف أي كائن جديد والتعرف عليه، لكن تبقى قدرة بعض حقيقيات النواة على تكوين كائنات متعددة الخلايا، مثل النباتات والحيوانات، هي أكثر ما يميزها. وظهر السؤال الذي حير العلماء لسنين: لماذا لم نشاهد كائنات معقدة التركيب -كبيرة الحجم وتتكون من خلايا مختلفة في الوظيفة- متكونة من خلايا بكتيرية أو عتيقة؟
أصل حقيقيات النواة
أكد العلماء عن طريق الدراسات الحفرية أن أقدم الخلايا البكتيرية والعتيقة المُكتشَفة تنتمي إلى عصر يسبق أقدم حقيقيات النواة بقرون، ومن ثم يظن أغلب العلماء أن البكتيريا والعتائق سبقت حقيقيات النواة إلى الوجود. وقد ظهرت العديد من النظريات لمحاولة تفسير ظهور حقيقيات النواة على أساس مجموعة من التغيرات التي ظهرت نتيجة لطفرات متعددة للبكتيريا، لكن هذا التفسير يتناقض مع المشاهدات والملاحظات؛ كغياب عضيّات حقيقيات النواة في كل أنواع البكتيريا الموجودة في هذا العصر. وأحد أهم التفسيرات التي لاقت قبول العلماء هو ظهور الميتوكوندريا، فأحد أهم الفوارق الرئيسية بين حقيقيات النواة وسواها هي قدرتها على إنتاج كميات كبيرة من الطاقة، الأمر الذي يرجع الفضل فيه في الأساس للميتوكوندريا، والذي مكنها فيما بعد من زيادة حجمها وتعقيدها، والذي يتجلى في تكوين متعددات الخلايا.
ما العلاقة بين أصل حقيقيات النواة وأصل الميتوكوندريا؟
ناقش الدكتور «نيك لين» (Nick Lane) عالم الكيمياء الحيوية التطورية في كتابه «القوة والجنس والانتحار: الميتوكوندريا ومعنى الحياة» (Power, Sex, Suicide: Mitochondria and the Meaning of Life)نظريات متعددة لأصل حقيقيات النواة وأصل الميتوكوندريا، لكنه أوضح أن الارتباط بين ظهورهما أمر مفصلي في نشأة كل منهما. فهو مؤمن بالنظرية القائلة بأن أصل الخلية حقيقية النواة هو خلية بدائية نشأت في الأساس من خلية عتيقة داخلها خلية بكتيرية -ستشكل الميتوكوندريا في نهاية الأمر- بينهما علاقة «تكافل داخلي» (Endosymbiosis). وهناك عدد من الدلائل التي تؤيد فكرة وجود هذه الخلية البدائية، منها أن كل حقيقيات النواة حاليًا تحتوي على ميتوكوندريا أو كانت تحتوي عليها ثم فقدتها، وأن الميتوكوندريا تشبه في تركيبها البكتيريا بشكل كبير. وعلى الرغم من وجود عدد من الاعتراضات على النظرية قائمة في الأساس على تساؤلات عن الأسباب التي قد تدفع خلية بكتيرية للتخلي عن حمضها النووي والعمل في خدمة خلية أخرى، وصعوبة تكوين علاقة تكافلية بين خليتين مختلفتين تمامًا في أنماط الحصول على الطاقة، أوضح لاين أن زيادة الأكسجين في الغلاف الجوي في أحد العصور القديمة هي السبب الذي جعل علاقة كهذه ممكنة. فوجود الخلية البكتيرية داخل الخلية العتيقة مكّن كلًا منهما من النجاة، فاستطاعت الخلية البكتيرية الحصول على الغذاء داخل الخلية العتيقة، واستطاعت الخلية العتيقة النجاة من الأكسجين القادر على قتلها.
العوائق أمام تطور البكتيريا
تعتمد البكتيريا في حصولها على الطاقة على غشائها الخلوي، الأمر الذي يشكل عائقًا كبيرًا لزيادة حجم الخلية، ومن ثم تعقيدها. فعند زيادة حجم الخلية، لا تزيد مساحة سطح غشاء الخلية بالقدر نفسه، فمثلًا عند زيادة حجم الخلية بمقدار ثمانية أضعاف، تجد مساحة السطح زادت بمقدار أربعة أضعاف، ومن ثم يزيد إنتاج الطاقة بأربعة أضعاف فقط، وهذا لا يتناسب مع الاحتياج الجديد للخلية. هذا يختلف إلى حد بعيد مع خلايا حقيقيات النواة التي تعتمد على الميتوكوندريا، فزيادة حجمها لن يؤثر في إنتاجها للطاقة، وإنما تستطيع خلية الحيوان أو النبات مثلًا أن تحتوي عددًا من الميتوكوندريا يتناسب مع احتياجها من الطاقة. ويشكل الوقت أحد أهم العوامل التي تعرقل تطور البكتيريا، فحجم البكتيريا يزيد المدة المطلوبة للانقسام؛ ومن ثم تفقد البكتيريا قدرتها على النجاة أمام الخلايا الأصغر حجمًا، وهو أمر لا يؤثر في الخلايا حقيقية النواة التي تحمل عددًا من الدفاعات والآليات تجعل بقاءها غير مرتبط بسرعتها في الانقسام.
المصادر
-علم الأحياء الدقيقة: مقدمة قصيرة جدًّا لنيكولاس بي موني ترجمة نهى صلاح
https://www.hindawi.org/books/48514028/
-POWER, SEX, SUICIDE: MITOCHONDRIA AND THE MEANING OF LIFE. Part 1. Hopeful Monster – The Origin of the Eukaryotic Cell
– POWER, SEX, SUICIDE: MITOCHONDRIA AND THE MEANING OF LIFE. Part 3. Insider Deal – The Foundations of Complexity.