البروتين الذي سرق النوم
في عام 1984، وفي مكان ما بإقليم فينيتو الإيطالي، لاحظ «سيلفانو» (Silvano) البالغ من العمر ثلاثة وخمسين عامًا أعراضًا تظهر عليه للمرة الأولى، لكنه يعرفها جيدًا. يعرف سيلفانو هذا التعرق المفرط وهذا الشكل الغريب بالغ الضيق لحدقتيّ عينيه، ويعرف كذلك ما يليهما من أعراض سيتوالى ظهورها في الأيام والأشهر القادمة.
هذا لأن سيلفانو كان قد شهد هذه الأعراض تظهر على أبيه وأختيه، وعلى أفراد سابقين من عائلته، قبل وفاتهم جميعًا بنفس الطريقة المؤلمة بعد شهور من عدم القدرة على النوم.
ما عاناه سيلفانو خلال الأشهر التالية لتشخيصه، والذي سجله الأطباء في عيادة النوم بجامعة «بولونيا» في إيطاليا (University of Bologna)، كان من أوائل التسجيلات الرسمية لأعراض مرض «الأرق العائلي المميت» (Fatal Familial Insomnia). والذي كان يجري بين عائلته التي يُعتقد بأنها من أوائل العائلات الحاملة للمرض.
وفي عام 1997، حصل الطبيب والعالم الأمريكي «ستانلي بروسينر» (Stanley Prusiner) على جائزة نوبل في الطب لاكتشافه بروتينًا سماه «البريون» (Prion). لسنين، كان بروسينر يؤمن بوجود شيء غير تقليدي يمكن أن يسبب المرض للإنسان والحيوان. وجاءت حادثة سيلفانو لتتوج ملاحظاته. بعد تشريح أنسجة دماغ سيلفانو، وجد بروسينر أنها تشبه كثيرًا الأنسجة الدماغية للمصابين بمرض عقلي آخر كان محل دراسته، كان يعتقد أنه شكل من أشكال مرض جنون البقر في الإنسان، وقد تمكن من استخراج البروتين المسبب لكلا المرضين وإثبات ارتباطه بهما.
البريون:
في صورته الطبيعية، لا يسبب هذا البروتين أي مشكلات، بل إن له وظائف خلوية يقوم بها عند نهايات الخلايا العصبية. مع ذلك، وفي حالات معينة نتيجة طفرة جينية، يُنتَج هذا البروتين في هيئة مختلفة تجعله يتحول ويهاجم الجسم. يبدأ البروتين المتحول بمهاجمة بروتينات أخرى سليمة، لتتحور هي الأخرى وتكوِّن نسخًا منه، ثم تهاجم جيوش البريونات هذه خلايا الجسم، خاصة الخلايا العصبية، في أماكن مختلفة من الدماغ. وبناءً على ذلك، تتباين الأعراض وفقاً للمكان الأكثر إصابة.
في حالات مرض «كروتزفيلد جاكوب» مثلًا Creutzfeldt-Jakob Disease, CJD))، تكون القشرة الدماغية أكثر الأماكن تضررًا، حيث تظهر فجوات واضحة تجعلها تشبه الإسفنج عند فحصها تحت المجهر. يؤثر مرض كروتزفيلد جاكوب في الإدراك والذاكرة، فيصاب المرضى بالخرف وتتقلص قواهم العقلية والجسدية في توالٍ سريع للأعراض.
أما في حالة سيلفانو، وفي الحالات الأخرى للأرق الوراثي المميت، تصيب البريونات جزءًا بيضاويًا صغيرًا في مركز الدماغ يُعرف بـ «المهاد» (Thalamus). هذا الجزء الصغير يكون مسؤولًا عن تنظيم كل العمليات العصبية اللاإرادية، وعن إدارة النوم واليقظة.
الأعراض:
كبقية أمراض البريون، يتميز الأرق المميت بمتوسط عمر بالغ القصر للمرضى، حيث يُقدَّر الفاصل الزمني بين ظهور الأعراض وحتى وفاة المريض ببضعة أشهر، وقد يصل إلى سنة أو بضع سنوات في حالات نادرة. تتدهور صحة المريض خلال هذه الفترة القصيرة بوتيرة سريعة؛ تبدأ الأعراض بسيطة مثل ارتفاع ضغط الدم، وزيادة التعرق، ونقص حاد وسريع في الوزن، إلى جانب اضطرابات النوم المتعددة. وما تلبث هذه الأعراض أن تتطور وتتحول لعدم قدرة المريض على النوم لأيام ولأسابيع متتالية. يصاب المريض بحالة مستمرة من التعب ويعلق في مكان بين النوم واليقظة، لا يستطيع الإفاقة الكاملة ولا يتمكن من الوقوع في نوم عميق. مع مرور شهور من عدم القدرة على النوم، تنعدم قدرة الجسم على تنسيق الحركة بالكلية، فلا يتمكن المريض من القيام بأبسط الأمور كالسير مثلًا، ويتعرض جسده لتشنجات متتالية، ونراه في هذيانه هذا يقوم بإيماءات مثل تمشيط الشعر وربط الحذاء، وما هي إلا أنشطة حياتية يراها في أحلامه الدائمة. في المراحل الأخيرة للمرض، يدخل المريض في حالة غيبوبة كاملة، ليأتي بعدها الموت أخيرًا وقد أبلى الأرق جسده.
الانتشار:
من حسن الحظ وسوئه أن أمراض البريون عمومًا -ومرض الأرق الوراثي خاصةً- بالغي الندرة، يصاب بها من شخص إلى شخصين من بين كل مليون إنسان سنويًا. وتبلغ عدد العائلات التي تجري في دمائها جينات المرض الوراثي قرابة 70 عائلة من بين كل سكان العالم. بالتالي يكون من الصعب دراسة المرض وطرق تكون الأعراض وتفاقمها بسبب هذه الندرة بالإضافة إلى المنحنى المرضي السريع. عادةً ما يشعر المصابون بعدم جدوى النظام الصحي، وغالبًا ما تأتي معلوماتهم عن المرض متوارثة عبر العائلات المصابة.
بالنسبة إلى الأبناء، فكون أحد الأبوين مصابًا أو حاملًا للجين المسبب للمرض يجعل نسبة إصابة الأبناء 50%، لكن رغم وجود الجين منذ الولادة، لم تُسجَل أي أعراض للمرض -في معظم الحالات المعروفة- سوى بين العقدين الرابع والسادس. لا يعلم أحد تحديدًا لماذا لا يظهر المرض مبكرًا أو ما الأسباب التي تدفعه للظهور فجأة. علمًا بأنه في بعض الحالات النادرة للغاية، لا يظهر المرض لدى حاملي الجين. شيء يدعو للقلق:
تتحدى بروتينات البريون ما نعرفه عن الطبيعة. فنحن نعرف أن مسببات الأمراض دائمًا ما تكون كائنات حية ذات مادة وراثية تسعى لتمريرها عبر التكاثر، مثل البكتيريا والفيروسات؛ وهذا التكاثر إذا حدث داخل جسم الإنسان أو خلاياه فهو ما يسبب المرض، إلا أن البريونات لا ينطبق عليها هذا الوصف التقليدي لمسببات المرض، فهي ليست كائنات حية وإنما بروتينات؛ أي مجرد تسلسل من الأحماض الأمينية؛ لا تملك مادة وراثية ولا تسعى للبقاء، إضافة إلى أنها جزء من جسم العائل الذي تهاجمه.
ولأن البريونات لا تملك حياة، فلا يمكن قتلها، سواء بالعلاجات المختلفة للمرضى أو حتى معمليًا في وجود البروتين منفصلاً. فلا تؤثر فيها الأحماض المركزة ولا الدرجات المرتفعة من الحرارة أو الضغط.
ويشكل ذلك تحديًا حقيقيًا في خطورة انتقال البريونات من الحيوانات المصابة إلى الإنسان، سواء عبر تناول لحوم تلك الحيوانات (حيث لا يمكن للطهي أن يقضي على البريونات)، أو من إنسان لآخر عن طريق أدوات ملوثة خلال عمليات جراحية مثلًا (حيث لا يجدي التعقيم معها نفعًا).
منذ تسجيل المرض بدراسة حالة سيلفانو وحتى اليوم، لم يتغير الكثير في طرق علاج الأرق المميت. لا يزال المصابون به والحاملون لجيناته في عداد المحكوم عليهم بالموت المحقق، لا تجدي العلاجات نفعًا مع هذا المرض النادر، ولا يسعنا تقديم شيء للمصابين سوى بعض العلاجات المساندة للعلامات الحيوية التي تقلل فقط من الألم والأعراض.
ربما يظل السؤال عن أهمية النوم معلقًا في المجتمعات العلمية، ويظل عالماً خفياً محبوساً في أحلامنا لا يخضع للحواس. لكن آثار فقدانه، قطعاً تُخضع واقعنا.
المصادر:
https://www.nbcnews.com/id/wbna6822468
https://www.bbc.com/future/article/20160118-the-tragic-fate-of-the-people-who-stop-sleeping
https://www.nobelprize.org/prizes/medicine/1997/prusiner/facts/
https://www.ncbi.nlm.nih.gov/books/NBK482208/
https://www.sleepfoundation.org/insomnia/fatal-insomnia
https://pubmed.ncbi.nlm.nih.gov/31507270/