تحرير: إسراء محمد مصطفى
يُعَدُّ مجالا «المعلوماتية الحيوية» (Bioinformatics) و«بيولوجيا النظم» (Systems Biology) من أهم المجالات البحثية في العالم الحديث، وإيمانًا منَّا بوجود الكفاءات في بلدنا مصر وعالمنا العربي في كل المجالات، يسلط حوارنا اليوم الضوء على إحدى هذه الكفاءات، حيث أجرت مؤسسة علماء مصر مقابلة خاصة مع أ. د. محمد حلمي، الباحث في منظمة اللقاحات والأمراض المعدية (VIDO) وكلية الصحة العامة بـ «جامعة ساسكاتشيوان» (University of Saskatchewan) بكندا، وفي هيئة العلوم والتكنولوجيا والأبحاث بسنغافورة (A*STAR) ، والأستاذٌ الزائر في عدة جامعاتٍ كندية و أمريكية في مجال المعلوماتية الحيوية، وقد جاء الحوار كالآتي:
– بداية، لقد تخرجتَ فى كلية الزراعة، فلماذا تخصصت في قسم الوراثة؟ وكيف نشأتْ علاقتك بتخصص المعلوماتية الحيوية؟
= اختيار تخصصي في قسم الوراثة والابتعاد عن الأقسام المرتبطة بكلية الزراعة مثل أقسام الإنتاج الزراعي كالإنتاج الحيواني والمحاصيل وغيرها، كان نابعًا من حقيقة أن أغلب الزملاء من محافظات زراعية، فلديهم الأفضلية لمعرفتهم المسبقة بتلك التخصصات القائمة على الممارسة، مما يجعل المنافسة صعبة وغير متكافئة.
أما عن علاقتي بتخصص المعلوماتية الحيوية، فقد بدأت بالتعرف على أ.د. فوزي الفقي، أستاذ الوراثة بكلية الزراعة، وكان يعمل في معمل «كولد سبرينغ هاربور» (Cold Spring Harbor Laboratory) الشهير بنيويورك، أحد أكبر المعامل البحثية عالميًا، وقد كان المشرف على مشروع تخرجي في مجال المعلوماتية الحيوية، والذي حصلت فيه على تقدير امتياز.
يرجع الفضل في تأسيس قسم «التكنولوجيا الحيوية» (Biotechnology) في كلية الزراعة بجامعة الأزهر، لـ أ.د. الفقي، حيث كان من أوائل من أدخلوا هذا العلم في مصر، وهو أول أقسام التكنولوجيا الحيوية في مصر، وأول قسم يمنح درجة علمية في مجال المعلوماتية الحيوية أيضًا.
أ. د. محمد حلمي، الباحث في منظمة اللقاحات والأمراض المعدية (VIDO) بكندا، وعلم بيولوجيا النظم والمعلوماتية الحيوية
– لنتحدث قليلًا عن الفرع الذي قمت بتأسيسه (Onco-Proteogenomics)، كيف كانت البداية؟
= البداية كانت من دولة اليابان، فبعد قضائي فترة تدريبية لمدة ستة أشهر هناك، حصلت على درجتيّ الماجستير والدكتوراة في مجال بيولوجيا النظم من «جامعة كيئو» (Keio University) والتي تعتبر واحدة من أعرق الجامعات اليابانية، وهو من المجالات العلمية الحديثة الذي يساهم في تطوير أساليب جديدة لفهم وتحليل الأنظمة الحية عن طريق دراستها بشكل شمولي بدلًا من النسق الاختزالي المعتاد.
خلال الدكتوراة، عملت في مجال حديث نسبيًا يتم فيه دمج «علم البروتينات» (Proteomics) مع «علم الجينات» (Genomics) في إطار واحد اسمه علم «البروتيوجينوم» (Proteogenomics)، بهدف أساسي يتمثل في تصحيح وتحسين «وصف الجينوم» (Genome Annotations)، أو بمعنى آخر التأكد من صحة الجينات المعلومة وتفاصيلها، خاصةً التفاصيل البنيوية.
كنت أتحدث مع زميل لي في المعمل، وهو في الأصل طبيب حاصل على الدكتوراة في علم السرطان وأمراض الدم، وتحدثنا عن الطفرات المرتبطة بالسرطان وصعوبة تعريفها على المستوى البروتيني، ومن يومها بدأ اهتمامي بالسرطان كدراسة، والذي أصبح فيما بعد مجال عملي الرئيسي حتى التحاقي بعملي الحالي.
ففكرت معه ومع المشرف الخاص بالمعمل في إمكانية تطوير الطريقة التي قمت بعملها في مجال «البروتيوجينوم» لعمل نسخة موجَّهة لتعريف التغيرات التي تحدث في تتابع البروتين و«الببتيدات» (Peptide) أو سلسلة الأحماض الأمينية في حالة الأورام، والتي تؤثر مباشرة على وظيفة البروتين ومن ثم تتسبب في الخلل الذي يؤدي إلى تسرطن الخلية.
وقمت بعمل التطوير المطلوب وكانت النتائج المبدئية مبشرة جدًا ، حيث وجدنا أن تتابع 26 ببتيدات غير موجود في الجينوم الطبيعي للإنسان؛ أي أن تلك الببتيدات حدثت لها طفرات، ونشرنا بحثًا صغيرًا عنها، وعند اختيار اسم الطريقة الجديدة قررت أن أدمج فيه اسم الطريقة الأولى، وهو «علم الأورام» (Oncology)، فأسميتها (Onco-Proteogenomics) لتمييزها. وهناك قمت بتأسيس فرع جديد في مجال بيولوجيا النظم يجمع بين دراسة البروتينات والجينات وملاحظة ما يطرأ عليها من طفرات عند الإصابة بالسرطان في إطارٍ واحد.
– هنا يثور سؤال بسيط لكنه ملح؛ هل المعلوماتية الحيوية وبيولوجيا النظم علمان مرتبطان؟
= بالطبع، بيولوجيا النظم هو التطور الطبيعي لفرعين من العلوم: الفرع الأول هو المعلوماتية الحيوية والفرع الثاني هو «التجارب فائقة الإنتاجية» (High-throughput Experimentation, HTE)، فعند دراسة «أوميكس» (Omics) -وهي كل العلوم البيولوجية المنتهية بالمقطع “-omics”، مثل علم الجينات (Genomics)، أو علم البروتينات (Proteomics)- فحينما تقوم بدارسة كل الجينات في عينة ما أو في كائن حي كامل تكون نظرتك للتجارب والنتائج بشكل شامل (Holistic Approach)؛ أي تقوم بدراستهم في إطار النظام الكامل، على العكس من «الطريقة الاختزالية» (Reductionist Approach) التي كان العلم قائمًا عليها من قبل. للتبسيط -وعلى سبيل المثال- في دراسة علم الجينات بدلًا من أن تقوم بدراسة كل جين على حدة، فإنك تقوم بدراسة الجينات في إطار النظام الكامل [تفاعلاتها معًا، وظائفها، تأثير كلٍ منها على الآخر]، فبذلك أنت تعتمد على دراسة النظام ككل بدلًا من دراسة أجزائه بشكل منفصل. حينها ستواجه معضلة استحالة دراسة آلاف الجينات أو آلاف البروتينات أو آلاف التفاعلات دون أدوات تساعد في قراءة البيانات وتحليل النتائج وإجراء الاختبارات الإحصائية والتأكد من صحة كل ذلك، وهنا أُطلِق على هذا الاتجاه الجديد من العلم مصطلح «بيولوجيا النظم».
تتعدد تطبيقات بيولوجيا النظم في مجالات الطب والأحياء، فهي تساهم في فهم آلية عمل الأدوية وكيفية حدوث الأمراض ومقاومة الأدوية، ورفع إنتاج الحاصلات الزراعية وتحسين صحة الحيوان ودراسة التغيرات البيئية وتأثيرها على الكائنات الحية. كما تساعد أيضًا في فهم الشبكات الحيوية داخل الخلايا وكيفية تفاعل مكوناتها، وتمكننا من التنبؤ بسلوك النظام البيولوجي ككل.
باختصار، بيولوجيا النظم تمثل نهجًا حديثًا لدراسة العلوم البيولوجية والطبية، وتساهم في فهم الظواهر الحيوية من منظور شامل.
“في رحلة دراسة الماجستير والدكتوراة في جامعة كيئو (Keio University)، في عام 2007 كان تخصص برنامج الدراسات العليا في البداية هو تخصص المعلوماتية الحيوية، ولكن في ذلك العام طرحوا برنامجًا جديدًا لتخصص بيولوجيا النظم، حينها قررت الانضمام لهذا المجال الحديث، لأصبح أول مصري وعربي يتخصص في هذا التخصص والحمد لله.”
– حدثنا عن رحلتك العلمية والعملية في كندا، وما هي النقاط المضيئة التي تفتخر بإنجازك لها؟
= = بعد نهاية مرحلة الدكتوراة، بدأت رحلة البحث عن فرصٍة جيدةٍ كباحث ما بعد الدكتوراة، فانضممت إلي كلية الصيدلة بـ «جامعة كيوتو» (Kyoto University) في اليابان أولًا ثم تلقيتُ ثلاثةَ عروض؛ واحد من كلية الطب بـ «جامعة تورنتو» (University of Toronto) في كندا، وآخرُ من كلية الطب بـ «جامعة جونز هوبكنز» (Johns Hopkins University) في أمريكا، وثالثٌ من «معهد ريكين» (Riken)، معهدِ البحوث الرئيسي في اليابان.
اتخذت قرار قبول عرض جامعة تورنتو، أفضل الجامعات الكندية، لتنتهي بذلك رحلتي في اليابان. وهناك تعلمت الكثير وشاركت في العديد من المشاريع العلمية الدولية، وكان أهمها مشروع خاص بدراسة جينوم السرطان (ICGC-PCAWG)، وهو واحد من أكبر المشاريع التي تم تنفيذها حتى الآن في هذا المجال، واستمر هذا المشروع نحو عشرة أعوامٍ انتهت عام 2020، وكان حصيلته 41 بحثًا تم نشرهم في مجلات «نيتشر» (Nature) المختلفة، وقد شاركت فيما يقرب من نصفها.
ومن النقاط المضيئة أيضًا هي فترة عملي بإحدى الشركات الناشئة، وهي شركة (BenchSci) بمنصب رئيس قسم المعلوماتية الحيوية، ومما يدعو للفخر أنني كنت واحدًا من الأربعة الذين ساهموا في تطوير التقنية الجديدة التي تقوم عليها الشركة، وتعتبر الشركة الآن واحدة من أنجح الشركات الكندية، ووصلت قيمتها السوقية حاليًا إلى ما يقارب 800 مليون دولار، وذلك بعد قيام شركة جوجل بشراء جزءٍ منها. عملنا في الشركة كان منصبًا على تطوير أدوات الذكاء الصناعي وعلاقتها بقراءة الأبحاث المختلفة واستخلاص المعلومات منها.
– والآن بالنسبة لآخر منصب لك، حدِّثنا عن منظمة اللقاحات والأمراض المعدية(VIDO)، وانضمامك لها وما وظيفتك وطبيعة عملك بها؟
= لقد انضممت إلى منظمة اللقاحات والأمراض المعدية (VIDO) في عام 2023 كباحث رئيسي (Principal Investigator). تم تأسيس المنظمة عام 1975 وهي تابعة لجامعة ساسكاتشوان المتواجدة في غرب كندا.
لأن المنظمة جزء من كلية الطب البيطري، فكان اهتمامها في البداية يتمحور حول مجال الطب البيطري وكل ما يتعلق به من أمراض معدية، لكن هذا النطاق توسع ليشمل اللقاحات وجميع الأمراض المعدية للبشر والمشتركة بينها وبين الحيوانات. وفي خلال فترة جائحة كورونا برز اسم المنظمة بأدائها المميز، حيث تم تطوير العديد من اللقاحات، وتقوم المنظمة حاليًا بتطوير لقاحها الخاص بفيروسات عائلة كورونا وليس كوفيد 19 فقط، وقد قامت المنظمة ببناء وإنشاء معمل للمعلوماتية الحيوية وبيولوجيا النظم، وذلك بعد تلقيها تمويلًا ضخمًا يصل لقرابة 200 مليون دولار!
حاليًا في معملي الخاص اهتمامنا منصب على الأمراض المعدية الفيروسية والبكتيرية سواء في مجال عمل اللقاح أو التشخيص وفي عمل المضادات الحيوية الجديدة المناسبة لـ «الجراثيم الفائقة» (Superbugs)، وهي البكتيريا التي ليس لديها مضاد حيوي أو كان لديها مضاد حيوي لكن اكتسبت مقاومة ضده، وهي من الأشياء المرعبة لمن يدرس أمراضًا معدية أو يتخصص في علم الأوبئة.
– في النهاية شكرًا جزيلًا لك يا دكتور على الحوار الشيق الممتع، استمتعنا واستفدنا به ونتمنى لك التوفيق دائمًا.
= شكرًا جزيلًا لكم على الاستضافة.