عندما غيَّر نجم البحر مفهومنا عن الإبصار
تمتلك الأنواع المختلفة في المملكة الحيوانية طرقًا عديدة للحصول على معلومات تساعد على فهم البيئة المحيطة. ومن أبرز وأهم هذه السبل: «الرؤية» (Vision)؛ وذلك عن طريق امتلاك الكائن لزوج من العيون المحمولة على الرأس.
من المعروف أن أغلب الحيوانات لديها القدرة على الإحساس بالضوء، ولكن ذلك لا يعني أن أغلبها يمتلك القدرة على الرؤية. وعلى هذا الأساس، يمكن تعريف الرؤية بأنها “قدرة الكائن الحي على استقبال الضوء -في صورة مؤثرات بصرية- عن طريق خلايا تُسمَّى «مستقبلات الضوء» (Photoreceptors)، توجَد مُرتَّبةً في عضو الإبصار، وتحويل هذه المؤثرات البصرية إلى إشارات عصبية تمنح الكائن إدراكًا حسيًّا يُمَكِّنه من تكوين صورة للبيئة المحيطة.
تتباين الكائنات التي تستطيع الرؤية في قدرتها على تكوين الصورة من حيث الجودة، فيما يُعرَف بـ«الاستبانة المكانية» (Spatial Resolution). فمثلًا: «اللاسعات» (Cnidaria) -قنديل البحر مثالًا- من الكائنات اللا فقارية التي تمتلك أعينًا بسيطة تجعلها قادرة على تكوين صور ذات جودة منخفضة.
وعلى النقيض، «الرخويات» (Mollusca) -وبالأخص «الرأسقدميات» (Cephalopods)، وعلى رأسها الأخطبوط- من الكائنات اللا فقارية التي تمتلك عيونًا شديدة التعقيد (من حيث التركيب) تقرب من عيون الكائنات الفقارية، وهذه العيون تُمَكِّنها من تكوين صور عالية الدقة للبيئة المحيطة.
يُمْكِننا إدراج هذا النمط من الرؤية تحت مسمى «الرؤية العينية» (Ocular Vision)، ولكن الغريب أنه يوجد كائنات تستطيع الرؤية بدون الحاجة إلى عضو مختص بالإبصار، حيث تمتلك هذه الكائنات آلاف المستقبلات الضوئية المنتشرة على الجسم، والتي يستطيع من خلالها الكائن استقبال «المعلومات المكانية» (Spatial Information)، فيما يُعرَف بـ«الرؤية خارج نطاق العين» (Extraocular Vision).
لم يكن من المتصوَّر سابقًا أن لمستقبلات الضوء الموجودة خارج نطاق العين دورًا في عملية الرؤية، ولكن أثبتت دراسات حديثة أن هذه المستقبلات تساهم في عملية الرؤية في «الجلد-شوكيات» (Echinodermata)، وبالأخص في أحد أنواع نجم البحر الهش المعروف علميًا باسم «أوفيوكوما ويندي» (Ophiocoma Wendtii) .
يعيش هذا النوع من نجوم البحر على حطام الشعاب المرجانية في منطقة البحر الكاريبي وخليج المكسيك، والتي تتسم بأنها منطقة مكتظة بالكائنات الحية. لكن المثير للاهتمام أن هذه المنطقة تمتلئ بعدة أنواع من الأسماك، مثل: «سمكة الببغاء» (Parrot fish)، و«سمكة الراس» (wrasse)، و«سمكة الكاريبي» (Mojarra)، حيث تعتبر هذه الأنواع من أشرس المفترسات لهذا النوع من نجوم البحر.
جميع هذه المفترسات السابق ذكرها مفترسات نهارية تستطيع أن تقضي تقريبًا على جميع أفراد هذا النوع، فمن هذا المنطق كيف يستطيع كائن لا يمتلك أعضاء للإبصار -بل لا يمتلك رأسًا من الأساس- أن يظل على قيد الحياة تحت ضوء النهار؟!
قامت الدكتورة «لورين سومنر روني» (Dr. Lauren Sumner-Rooney)، الباحثة في «معهد التنوع الحيوي والتطور ببرلين» (Institute of Biodiversity and Evolution, Berlin)، بإجراء العديد من التجارب التي تهدف إلى فهم نظام الرؤية الخاص بنجم البحر «أوفيوكوما ويندي»، وتأثيره على السلوك البيئي الخاص به. وكانت من أهم التجارب التي أجراها الفريق مقارنة ما بين نجم البحر الهش «أوفيوكوما ويندي» وقرينه «أوفيوكوما بوميلا» (Ophiocoma Pumila) الذي لا يستطيع الرؤية.
أظهرت النتائج أن «أوفيوكوما ويندي» لديه قدرة على تكوين الصور من خلال الجسد، ليس فقط عبر الإحساس بالضوء وإنما بإدراك حسي كامل للبيئة المحيطة، وذلك لوجود خلايا ملوَّنة -تُعرَف بـ«حاملات الأصباغ» (Chromatophores)- أعلى مستقبلات الضوء، حيث تسمح بسقوط الضوء بزاوية حادة على هذه المستقبلات، مما يساعد على تكوين صورة جيدة.
يظهر ذلك عند تعرض نجم البحر في بيئة معملية إلى ضوء ساطع، حينها يسرع نجم البحر «أوفيوكوما ويندي» إلى اللجوء لأقرب حاجز لكي يحتمي من الضوء، وذلك عقب تغير لون الجلد من البني الفاتح إلى الأحمر الداكن، على عكس ما يحدث لـ«أوفيوكوما بوميلا» الذي يفتقر لحاملات الأصباغ، حيث يدفن نفسه سريعًا في البيئة الرملية المتواجد فيها عند تعرضه للضوء الساطع، ولا يُلاحَظ أي تغير في لون الجلد.
تثبت هذه التجربة دور حاملات الأصباغ في تحسين الاستبانة المكانية للكائن الحي، إذ إنها تساعده على الرؤية التي تؤثر بشكل جلي على سلوكه البيئي. كما يشبه سلوك نجم البحر «أوفيوكوما ويندي» لعبة الغميضة، حيث تصف الدكتورة روني سلوكه بـ«الجري والاختباء» (Run and Hide)، ذلك التفسير يوضح كيف يستطيع نجم البحر أن ينجو من المفترسات في النهار.
ظهرت الرؤية خارج نطاق العين في نوعين من الجلد-شوكيات، وهما: نجم البحر الهش «أوفيوكوما ويندي» وأحد أنواع خيار البحر، مما يفتح الباب أمام العديد من الأسئلة حول حدود هذه القدرة وتطورها في الكائنات الحية.
من خلال دراسة أعين الكائنات الحية لقرون، استطاع العلماء وضع المفاهيم الأساسية للرؤية. وطبقًا لهذه القواعد، لا يمكن اعتبار الرؤية خارج نطاق العين نظامًا للإبصار، وذلك لأن المستقبلات الضوئية تكون حينها مبعثرة وليست مرتبة في هيكل متمايز يمكن تسميته بـ«العين»، وهذا -على الرغم مما سبق- لا يمنع أن تُمثِّل هذه القدرة نموذجًا استرشاديًا جديدًا يُظهِر لنا الحياة بشكل مختلف.
المصادر
Porter, M. L., & Cronin, W. T. (2009). Visual system: Invertebrates. Encyclopedia of Neuroscience, 351–358. https://doi.org/10.1016/b978-008045046-9.00905-0
Sumner-Rooney, L., Kirwan, J. D., Lowe, E., & Ullrich-Lüter, E. (2020). Extraocular Vision in a brittle star is mediated by chromatophore movement in response to ambient light. Current Biology, 30(2). https://doi.org/10”1016/j.cub.2019.11.042
Chappell, D. R., & Speiser, D. I. (2020). Visual ecology: Now you see, now you don’t. Current Biology, 30(2). https://doi.org/10”1016/j.cub.2019.12.002
Sumner-Rooney, L., Kirwan, J. D., Lüter, C., & Ullrich-Lüter, E. (2021). Run and hide: Visual performance in a brittle star. Journal of Experimental Biology, 224(11).
https://doi.org/10.1242/jeb.236653