الجينات وسلوكنا الشخصي: تحكمٌ فطري أَم فعلٌ إرادي؟

شريف علي11 أغسطس، 2024

0 1٬374 3 minutes read

الجينات هي أجزاء من الحمض النووي الريبي منقوص الأكسجين، والمعروف بـ«دي إن آي» (DNA)، ويُعَد الجين الوحدة الوراثية الأساسية التي تنتقل من الآباء إلى الأبناء. تحمل الجينات المعلومات اللازمة لصناعة البروتينات المسؤولة عن ظهور الصفات المورفولوجية (الشكلية أو الظاهرية)، مثل: لون الشعر، أو لون العينين، أو ملامح الوجه، بالإضافة إلى الوظائف الخلوية. توارث الصفات الظاهرية عن طريق الجينات واضح طبقًا لفهمنا الحالي، ولكن ما نسعى لمعرفته الآن: هل من الممكن توارث الصفات السلوكية؟ بمعنى آخر: هل يوجد جين معين مسؤول عن ظهور سلوك محدد (مثل: الصدق، الرغبة في مساعدة الآخرين، الكذب، أو إدمان الكحوليات)، حيث تُورَّث هذه الصفات من جيل لآخر؟

ظهرت أول دراسة ممنهجة ناقشت إمكانية توريث السلوك الإنساني منذ حوالي ١٠٠ سنة، وقد أجراها «فرانسيس جالتون» المستكشِف وعالِم الأنثروبولوجيا (علم طبائع الإنسان). كان جالتون مهتمًا بالبحث عن إمكانية توريث صفات مثل الذكاء مثلًا، فقام بدراسة الصفات السلوكية لتوأمين متطابقين جينيًا نشآ في بيئتين مختلفتين. أدرك جالتون أن هناك فرقًا بين الصفات الفطرية والصفات التي يمكن أن تختلف تحت تأثير العوامل البيئية؛ حيث إن التوأمين يختلفان في الصفات السلوكية على الرغم من تطابقهما جينيًا، مما يوضح أن الجينات وحدها غير قادرة على تحديد السلوك، وأن العوامل البيئية لها دور كبير في هذه الأحجية.

تقدمت الدراسات التي تسعى لفهم التأثيرات المرضية للجينات ودورها في الأمراض الموروثة عن طريق «نهج الجين المرشح» (Gene-Candidate approach)، والذي يتساءل الخبراء من خلاله عن وجود «أليل» (نسخة تُظهِر صفة معينة للجين) محدد يؤدي إلى ظهور مرض أو سلوك معين مقارنة بعدم وجوده. لمحاولة معرفة ما إذا كان هذا الجين المرشح سببًا لظهور سلوك بعينه، تطلب ذلك من الباحثين معرفة سابقة بكل خصائص هذا الجين، وأيضًا الآليات المرضية لأمراض يُعتقَد أن هذا الجين سبب فيها. بالإضافة إلى ذلك، وجب معرفة كيفية تأثير هذا الجين على سلوكيات مشابهة في كائنات أخري أقل تعقيدًا.

تم اختبار ذلك عن طريق دراسة التعبير الجيني لهذا الجين في خلايا أدمغة الأشخاص الذي يظهر فيهم هذا السلوك غالبًا، ومقارنته بالآخرين الذين لا يظهر فيهم هذا السلوك. استطاع هذا المنهج أن يوضح لنا مدى الارتباط ما بين هذا الجين والسلوك، لكنه لم يوضح بأن هذا الجين سبب مباشر لذات السلوك، ولهذا يقترح العلماء استخدام أساليب الهندسة الوراثية مثل «تكنولوجيا الإقصاء الجيني» (Gene Knockout) لفهم علاقة السببية. لم تكن فكرة وجود جين مفرَد مسؤول عن سلوك معين مستساغةً بالنسبة للعلماء؛ حيث كانوا يميلون إلى أن السلوك هو نتيجة تفاعل جينات متعددة مع عوامل بيئية مختلفة.

علمنا أن الجينات ليست وحدها المسؤولة عن السلوك، وأن السلوك ناتج عن تفاعلات معقدة ما بين جينات مختلفة وعوامل بيئية عديدة، لكن ليس هذا هو الحال دائمًا؛ حيث يظهر لنا في المملكة الحيوانية ما يُعرَف بـ«الغريزة» (Instinct). الغريزة سلوك يصدر عن الحيوان عند التعرض لمؤثر معين في سياق معين، وفَور البدء في تنفيذه لا يمكن التوقف أو التراجع عنه حتى انتهائه، فحتى التعلم في هذه الحالة لن يجدي نفعًا. وهناك العديد من الأنماط السلوكية الفطرية في حياة الحيوان؛ أي أنها تعتمد بشكل كامل على الجينات، حيث لا يمكن للكائن أن يغير هذا السلوك طيلة حياته. وهذه الفكرة لا تنفي قدرة الحيوان على التعلم، بل إن الحيوانات قادرة على تمييز الأنماط المختلفة في البيئات المختلفة، وهي قادرة أيضًا على تعلم سلوكيات جديدة لم تكن لتعلم عنها شيئًا بالفطرة.

وحول موضوع (هل تتحكم الجينات في سلوكنا؟)، تتصاعد الأصوات بسؤال آخر مفاده (هل فقد الإنسان الإرادة الحرة؟). قرأت في السطور السابقة أن السلوك تحدده الجينات والعوامل البيئية المختلفة التي لا حصر لها (والتي قد تساهم في تغييرات سلوكية جذرية)، لكن حتى هذه الرؤى التجريبية لا تصف حقيقة الواقع بالضرورة؛ حيث لا يمكن تعميم النتائج خارج سياق التجربة، بالإضافة إلى أنها مقيدة بإطار معرفي معين.

إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم؛ فالإنسان مميز ولديه قدرة فائقة على الإدراك والتعلم، ويستطيع دائمًا أن يحسِّن من سلوكياته ويغيرها، وهذا ما يثبته الواقع. يرى الدكتور« نيجيل باربير» (Nigel Brber) -الحاصل على الدكتوراه في «علم النفس البيولوجي» (Biopsychology)، في مقالة له على المدونة الشهيرة «علم نفس اليوم» (Psychology Today)- أن محاولة فهم السلوك الإنساني على أنه مجرد تفاعلات بيوكيميائية شيء يدعو للإحباط، فما رأيك أنت؟!