الكسوريات والمعمارية الخفية للطبيعة

جمال التكامل بين الرياضيات والعلوم التجريبية

تتنوع الظواهر الطبيعية حولنا في الكون المرصود باختلاف مقاييس الملاحظة المكانية والزمنية، لذا يعتبر إيجاد الرابط بينها وبين بعضها إنجازًا علميًا (Scientific Breakthrough)، والهدف هو الوصول لفهم أعمق لطبيعة الظواهر وأنماط ظهورها، ومثال ذلك  «النظرية الكسورية» (Fractal Theory) التي كانت إحدى النظريات  التي استطاعت الربط بين الكثير من الظواهر وبعضها،  ورصدت الكثير من الظواهر المشتركة بين الرياضيات والعلوم، مما غيّر مسار النمذجة الحسابية للطبيعة.

في منتصف سبعينيات القرن الماضي، كان الرياضياتي الفرنسي الشاب «بينوا ماندلبروت» (Benoit Mandelbrot) يعمل باحثًا لحساب شركة الحوسبة «آي بي إم» IBM))، حيث كان مختصًا بتحليل دوال الضوضاء في أنظمة الاتصالات والأسواق الاقتصادية، وأثناء عمله لاحظ أنّ هذه الدوال تتميز بخاصية مشتركة بينها سُميت بـ «التشابه الذاتي» Self-Similarity))، حيث إنّ نمط تغيّر الدالة على المدى البعيد -كالشهور والسنين- يُطابق تقريبًا نمط تغيرها على المدى القريب -كالأسابيع والأيام- ويتم ذلك بتكرار نمط التغير المميز للدالة على مستويات التكبير المختلفة.

ماندلبروت وهو يعمل في آي بي إم (المصدر: The Fractalist (2009))



هذا النمط من التشابه لم يُرصد من قبل، وهو ما بنى عليه ماندلبروت مبادئ الهندسة الكسورية التي استخدمها لاحقًا في وصف تعقيد «هندسة السطح» (Surface Engineering) لكثير من مكونات الطبيعة، كالتكتلات البخارية التي تتكون منها السحب، وأنماط تفرعات الأنهار، والأسطح الوعرة للجبال. الأمر المشترك بينها جميعًا “خشونة” السطح وعدم انتظامه على مقاييس التكبير المُختلفة، وهذا ما تصفه لفظة «كُسوري» (Fractal) والتي اشُتقت من اللفظة اللاتينية (Frāctus) والتي يقصد بها «مُتشقق» أو «خَشِن»، وهذه الهندسة تُمكِّنُنا من قياس “درجة الخشونة” لأي سطح غير منتظم، وبالتبعية إلى أي مدى يتشابه ذاتيًا، على نقيض الهندسة الإقليدية، التي لا تصف إلا الهياكل الناعمة المستوية، مثل الدوائر والخطوط المستقيمة، وعليه تعجز عن وصف مثل هذه الخواص التكرارية.

التشابه الذاتي يسيطر على الظواهر الطبيعية



«السُحب ليست كُروية، والجبال ليست مخروطية، وحدود الساحل ليست دوائر، ولُحاء الأشجار ليس أملسَ، والبرق لا ينتقل في خط مستقيم»
― بينوا ماندلبروت

تَظهر الظاهرة الكسورية في الرياضيّات بطرق عدة، فمثلًا من خلال تحليل الدوال الإحصائية، أو تحليل الدوال البحتة، أو من خلال النمذجة الرقمية للمعادلات التكرارية، وكل هذه الحالات تثبت تجذّر الظاهرة الكسورية في أنحاء متفرقة من الرياضيات والظواهر الطبيعية.

الدوال الإحصائية الكسورية

هي الدوال التي تتشابه ذاتيًا على مقاييس مختلفة بشكل “تقريبي” دون أن تُظهر نمطًا مثاليًا من التشابه، ويُسمى تحليل تلك الدوال بـ «التحليل الكسوري للسلاسل الزمنية» (Fractal Analysis of Time Series)، على اعتبار أنّه يتم تحليل بنية الدوال من خلال مراقبة سلوك الدالة مع الزمن، مثل التغيرات الدورية في أسهم البورصة، أو تغيرات حركة البيع والشراء بأسواق الذهب، وعند مقارنة هذه التغيرات على المدى البعيد بتغيرات المدى القريب تُظهر تلك الطريقة قدرة تنبؤية جديدة لحركة الأسواق، ويمكن استخدامها وتعميمها على كل الظواهر الزمنية الطبيعية.

السلوك الإحصائي لنمو شركة جوجل بالبورصة (المصدر: Medium )

الدوال النظرية الكسورية

على نقيض الدوال الإحصائية، تُعرف هذه الدوال البحتة ببنائها المثالي، حيث تظهر نمطًا من التشابه الذاتي المتطابق على أي مقياس تكبير، وأشهر تلك الدوال تُعرف باسم «دالة فايرشتراس «((Weierstrass function، فهي لا تحتوى على أية خطوط مستقيمة، وإنما مجموعة من الزوايا المُتعرجة المتصلة، وعند تكبير أي نقطةٍ منها تظهر مجموعة جديدة من “التعرجات ” اللانهائية، ويُمثل هذا النوع من الدوال تحديًا أمام التفاضل والتكامل، حيث إنّها غير قابلة للاشتقاق عند أي نقطة رغم اتصالها، وذلك بسبب استحالة أخذ مماس لأية نقطة على طول الدالّة.

دالة فايرشتراس الكسورية

الدوال الرقمية الكسورية

أثناء عمل ماندلبروت على التمثيل الرقمي للدوالّ غير الخطية، قام باستكشاف نوع منها يُعرف باسم «الدوالّ التكرارية» Recursive Functions))، وقام برسم أحد هذه المعادلات البسيطة على حاسوبه الخاص لتظهر أحد أشهر الكسوريات الرقمية، والتي سميت باسم «مجموعة ماندلبروت» (Mandelbrot Set). ما يُميز هذه المعادلات ذات البنية الكسورية أنّه كلما زاد تكبير مقياس الإحداثيات، تظهر أنماط جديدة تحافظ على التشابه الذاتي للدالة الأصلية، والمذهل هو إمكانية رسم عدد لا نهائي من الكسوريات الرقمية، حيث أنّ الفكرة كلها تدور حول ” تكرار” معادلة الرسم على المقاييس المختلفة.



ومن أشهر النماذج الكسورية الرقمية «مثلث سيربينسكي» (Sierpinski’s Triangle)، و«إسفنج مينغر»(Menger Sponge) ، و«مجموعة جوليا»(Julia Set) ، حيث أنّ هذا النوع من الكسوريات ذو خواص “مثالية”، أي أنها لا تحتوي على المُعامل الفوضوي الذي يجعل الشكل يبدو عشوائيًا كأنظمة الطبيعة، مثل السطح الوعر للجبال، كما أنها في نفس الوقت “لا نهائية”؛ فكلما زاد مقياس التكبير، تظهر المزيد من الأنماط الفرعية بلا توقف.

مثلث سيربينسكي يُظهر الخواص المثالية للتشابه الذاتي
إسفنج مينغر
 مجموعة جواليا

على نقيض الكسوريات الرياضية المثالية، تُظهر الأنظمة الطبيعية نطاقًا واسعًا من «الكسوريات الإحصائية» (Statistical Fractals)، ويعود ذلك إلى مركزية الفوضى في هندستها، إلا المقصود بالفوضى هنا ليس العشوائية التامة، وإنما بالرجوع إلى «نظرية الفوضى» (Chaos Theory)، نفهم أنّها نوع من الانحراف المُنظم.

المذهل أن درجة الانحراف تلك قابلة للقياس من خلال مفهوم «البُعد الكسوري» (Fractal Dimension)، وهي طريقة حسابية لفهم درجة تعقيد البناء، فالأشكال غير المنتظمة لا يمكن وصفها بالهندسة الإقليدية، التي لا تصف إلا الأشكال التي تكون أبعادها أرقامًا صحيحة، حيث النقطة ذات البعد صفري، والخط ذو البعد الواحد، والمربع ذو البعدين، لذا تصف الهندسة الكسورية الأشكال غير المنتظمة بأبعادها الكسورية التي تقع بين الأبعاد الصحيحة، كالبُعد 1.36 والبعد 1.52، وتزيد قيمة البعد الكسري للشكل كلما ازداد تعقيده، بحيث تظهر التفاصيل المكونة له على مستويات أصغر كما بالشكل أدناه.

 منحنى كوش (Koch Curve) 

هذا الشكل يعرف بمنحنى كوش (Koch Curve)، وكلما زادت المثلثات الفرعية المكونة للشكل زادت قيمة البُعد الكسوري  المستخدم في وصف تعقيده  تدريجيًا.

يمكننا باستخدام مفهوم البعد الكسوري قياس درجة الفوضى الخاصة بكل الأنظمة الفيزيائية، التي تكون غير خطية بطبيعتها، حيث يساعدنا هذا مثلًا في فهم إلى أي مدى تتقسم الحدود الساحلية الى مجموعات من الجزر الأصغر، أو في قياس تعقيد أنماط تفرعات البرق، وربط ذلك بالظروف الجوية المحيطة، كما يُساعدنا في فهم ظواهر التفريغ الكهربي داخل الأسطح العازلة، التي عادة ما تكون أنماطًا تعرف بـ «شكل ليشتنبرج» (Lichtenberg Figure)، وهذا يوفّر لنا استخدام تلك القياسات في دراسة الارتباطات غير المرئية، سواءً المكانية أو الزمنية منها.

خطوط ساحلية                                          
شكل ليشتنبرج -ظاهرة التفريغ الكهربي-


مع تطور المفهوم الهندسي للنظرية الكسورية، أصبحنا نمتلك القدرة على وصف الأشكال ذات البنية المعقدة -الفوضوية التكرارية- ليس على المستوى البنائي المكاني فحسب، بل تطرَّق الأمر إلى اكتشاف وتحليل الكثير من «الظواهر الزمنية» (Temporal Phenomena)، مثل سلوك موجات الزلازل التي،  بتحليل تغيراتها، أظهرت خصائص كسورية مكانية-زمنية خفية.  

أثار التصدعات الأرضية
مقياس ريختر لتسجيل سلوك الزلزال

لا تصف الهندسة الكسورية الأنظمة الفيزيائية فحسب، بل لمملكة الحياة نصيب ضخم في تعدد الظواهر الكسورية على مختلف المستويات البيولوجية الخلوية والعضوية، فمن أشهر الكسوريات الحيوية على المستوى العضوي نمط تفرعات شبكة الأوعية الدموية للجسم، وتغصنات الشعب الرئوية، وحتى على المستوى الخلوي، مثل شبكة الاتصالات العصبية بين الخلايا المخية وبعضها، وبالطبع يمكن استغلال التغير في هندسة تلك الأنظمة في فهم كيفية حدوث المرض، وقد يساعدنا هذا المفهوم في فهم آليات التكيف والسلوكيات الحيوية المعقدة.

الأوعية الدموية باليد                         
الشعب الهوائية                        
اتصالات الخلايا العصبية

ويمكن اعتبار الظواهر الكسورية بالمملكة النباتية أكثر الكسوريات مثاليةً في الطبيعة، حيث تتشابه مع الكسوريات الرياضية في بُنيتها، ولكن الفرق أنّ النماذج الكسورية الطبيعية لها حدود ينتهي عندها التشابه وليست مستمرة إلى ما لا نهاية. وتعد الأشجار أكثر الأنظمة البيئية وضوحًا للهندسة الكسورية، حيث تبدأ من الجذر الذي يتفرع لمجموعة من الفروع الرئيسية، ثم تتفرع بدورها لأغصان أصغر، حتى تنتهي بالأوراق، وكثير من النباتات، مثل نبات السرخس الذي يشبه كل فرع من فروعه النبات بأكمله، ونبات القرنبيط، الذي يشبه كل فص من فصوصه شكل قرنبيط أصغر، وهكذا حتى نصل لأصغر وحداته.

  فرع من نبات السرخس                                             
مجموعة أشجار                                  
 نبات القرنبيط

وتظهر الكثير من الكائنات وحيدة الخلية ببنية كسورية ذات نمط مُحدد، مثل «العفن الغروي» (Slime Mold)، الذي يُغيّر هيكل شبكته حسب الظروف داخل بيئته، بالإضافة إلى أنواع كثيرة من البكتيريا التي تُظهر نمط التفرعات، مثل «مُستعمرات بكتيريا القش» (Bacillus subtilis)، التي تتفرع أثناء عمليات النمو أو خلال استكشاف البيئة المحيطة.

بكتريا القش
العفن الغروي

على مدى الثلاثة عقود الأخيرة، أثبتت الأبحاث من مختلف التخصصات عالمية الظاهرة الكسورية وخرجت بنتائج مبشرة في مجالات عدة، مثل الرياضيات، حيث أنشئ علم «التفاضل والتكامل الكسوري» (Fractal Calculus)، وفي العلوم، حيث تطورت قُدراتنا التحليلية في اكتشاف الظواهر الخفية، التي كنّا عاجزين عن رصدها في السابق، والتحدي الآن يتمثل في فهم القوى الفيزيائية الكامنة وراء ظهور تلك الهياكل في غالبية الأنظمة غير الخطية، بهدف الوصول إلى نظريات أشمل قد تُغير فهمنا تجاه العلم الحديث، وتُمكننا من الإجابة على ما يجعل الهيكل الذي شكلته روافد نهر المسيسبي يشبه إلى حد كبير بنية الشبكة العصبية داخل المخ.

نهر المسيسبي وتفرعات روافده                                  
 رسم توضيحي للشبكة العصبية بالمخ

المصادر:

The fractal geometry of nature:

https://books.google.com.eg/books/about/The_Fractal_Geometry_of_Nature.html?id=0R2LkE3N7-oC&redir_esc=

https://www.ibm.com/history/benoit-mandelbrot

Benoît B Mandelbrot: the man who made geometry an art:

https://www.theguardian.com/artanddesign/jonathanjonesblog/2010/oct/19/benoit-b-mandelbrot-geometry-art

 Fractals: A Resonance between Art and Nature:

https://www.researchgate.net/publication/226130687_Fractals_A_Resonance_between_Art_and_Nature/citations

 Fractal approach in modeling of earthquakes:

https://link.springer.com/article/10.1007/BF00192069

Plants, fractals, and formal languages:
 https://dl.acm.org/doi/abs/10.1145/964965.808571

A Model of the Lungs Based on Fractal Geometrical and Structural Properties:

https://www.sciencedirect.com/science/article/pii/S1474667016387791

The Fractal Geometry of the Brain:

https://link.springer.com/book/10.1007/978-3-031-47606-8

 Microbial growth patterns described by fractal geometry:

https://www.ncbi.nlm.nih.gov/pmc/articles/PMC208582/

Exit mobile version