أكسبت الجهود المبذولة لكشف أسرار البروتينات، التي تعتبر اللبنات الأساسية للحياة، ثلاثة علماء جائزة نوبل في الكيمياء لعام 2024، حيث أعلنت لجنة «الأكاديمية الملكية السويدية للعلوم» (Royal Swedish Academy of Sciences) منح الجائزة لكل من «ديفيد بيكر» (David Baker)، و«ديميس هاسابيس» (Demis Hassabis)، و«جون م. جامبر» (John M. Jumper)، حيث مُنِح النصف الأول من الجائزة لـ «ديفيد بيكر» لأبحاثه حول «التصميم الحاسوبي للبروتينات» (Computational Protein Design)، والنصف الآخر مناصفةً بين البريطاني «ديميس هاسابيس» والأميركي «جون م. جامبر» لـ «التنبؤ ببنية البروتين» (Protein Structure Prediction) باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي.
نظرة مقربة: ما هي البروتينات وما أهميتها؟
انصب اهتمام جائزة نوبل هذا العام على البروتينات. وقبل الحديث عن إنجاز الثلاثي، لنتعرف سريعًا على البروتينات، وهي جزء أساسي وبنية مهمة للحياة مسؤولة عن العمليات في جميع الكائنات الحية، بدءًا من نسخ الحمض النووي إلى الاستجابات المناعية. فالبروتينات جزيئات كبيرة ومعقدة تتكون من مئات أو آلاف الوحدات الأصغر التي تسمى بالأحماض الأمينية، وهي بالتحديد 20 حمضًا أمينيًا مختلفًا. ترتبط تلك الأحماض الأمينية معًا في خيوط طويلة تُطوَى لتكون تراكيب مميزة ببنية ثلاثية الأبعاد، وتمنح هذه التراكيب البروتينات وظيفتها داخل جميع الكائنات الحية، فتأخذ البروتينات أشكالًا وأوزانًا جزيئية مختلفة اعتمادًا على تسلسل الأحماض الأمينية. فالهيموجلوبين -على سبيل المثال- بروتين كروي، مما يعني أنه يطوى في تركيب مضغوط يشبه الكرة الأرضية، أما الكولاجين الموجود في جلدنا، فهو بروتين ليفي، أي أنه يطوى في سلسلة طويلة ممتدة تشبه الألياف.
وتلعب البروتينات دورًا مهمًا في العديد من وظائف الجسم الأساسية، تبدأ من تكوين الإنزيمات والهرمونات وحتى تنظيم أنسجة وأعضاء الجسم. فمثلًا يُنقل الأكسجين في أجسادنا عن طريق بروتين الهيموجلوبين، ويساعد الأنسولين على امتصاص الجلوكوز من الدم، فنجد أن كل ما يؤثر على إنتاج البروتينات تكون له عواقب على صحة الإنسان.
لهذا يعد فهم بنية البروتينات أمرًا ضروريًا لأن بناها تحدد وظائفها، وقد فاز «كريستيان أنفينسن» (Christian Anfinsen) في عام 1972 بجائزة نوبل في الكيمياء لإظهاره أن تسلسل اللبنات الأساسية للأحماض الأمينية للبروتين يُملِي بنية البروتين، التي تؤثر بدورها على وظيفته، فإذا طُوِيَ البروتين بشكل غير صحيح، قد لا يعمل كما ينبغي وقد يؤدي إلى أمراض مثل مرض ألزهايمر أو التليف الكيسي أو مرض السكري.
إنجاز غير مسبوق.. تصميم بروتين جديد كليًا
في عام 2003، نجح «بيكر» في تصميم أول بروتين جديد ومختلف تمامًا عن جميع البروتينات المعروفة في الطبيعة عن طريق برنامج حاسوبي قام بتطويره يسمى «روزيتا» (Rosetta)، والذي يمكنه أن يتنبأ ببنية البروتين. فبدلاً من إدخال تسلسلات الأحماض الأمينية واستخراج بنية البروتين كما هي العادة في الطبيعة، يسمح هذا البرنامج بإدخال بنية البروتين المرغوبة والحصول على اقتراحات لتسلسل الأحماض الأمينية، فيُمكّنهم من إنشاء بروتينات جديدة تمامًا كما حدث مع البروتين الذي اكتشفه «بيكر» وأسماه «توب 7» (Top7)، والذي يحتوي على 93 حمضًا أمينيًا.
وباستخدام برنامجه الحاسوبي، عمل مختبر «بيكر» على تصميم وإنتاج مجموعة متنوعة وعدد هائل من البروتينات بآثار واسعة النطاق يمكن استخدامها لأغراض علاجية، أو إدخالها في إنتاج اللقاحات، فضلًا عن ابتكار مواد نانوية ومستشعرات دقيقة.
ثورة علمية عنوانها التنبؤ بالبنية ثلاثية الأبعاد للبروتينات
لطالما شغل عقول العلماء والباحثين ترتيب تلك الخيوط والسلاسل الأمينية التي تعطي وتحدد وظيفة البروتينات. لكن في عام 2020، طوّر «هاسابيس» و«جامبر» نموذج ذكاء اصطناعي لحل مشكلة يبلغ عمرها قرابة 50 عامًا، وهي التنبؤ بالبنى المعقدة للبروتينات بناءً على الأحماض الأمينية. وسُميّ هذا النموذج «ألفا فولد 2» (AlphaFold2)، وقد طُوّر في مختبر شركة «جوجل ديب مايند» (Google DeepMind)، وهي شركة بحثية متخصصة في الذكاء الاصطناعي. ويستخدم هذا النموذج «الشبكات العصبية» (Neural Networks) و«التعلم العميق» (Deep Learning) للتنبؤ بالبنية ثلاثية الأبعاد للبروتينات والتنبؤ ببنية البروتين بدقة تبلغ حوالي 90%.
قبل هذا الابتكار، كان الحصول على بنية البروتين أمرًا قد يستغرق سنوات، أما الآن صار هذا ممكنًا في بضع دقائق بمساعدة هذا النموذج، وقد تمكّن الباحثون من التنبؤ ببنية جميع البروتينات المعروفة البالغ عددها 200 مليون.
ومنذ اكتشافهما، استخدم «ألفا فولد 2» أكثر من مليوني شخص من 190 دولة. لذا يمكننا تشبيه هذا النموذج بـمحركات البحث، لكن عن بنية البروتينات، حيث يسمح بالوصول فورًا إلى النماذج المتوقعة للبنى، مما يسرّع من عملية التقدم في علم الأحياء والمجالات الأخرى المتصلة به.
تمنحنا قدرتنا الحالية على التنبؤ ببنية البروتين وتصاميمها الخاصة أكبر فائدة للبشرية والقدرة على استخدام عدد لا يحصى من التطبيقات العلمية على ضوء هذا الاكتشاف.
الخطوة القادمة، ماذا بعد؟
في النهاية، مع هذين البرنامجين، «روزيتا» و«ألفا فولد 2»، سيتمكن الباحثون من فهم جيناتنا وكيفية تفاعلها كما لم يحدث من قبل. والأهم تلك الاستخدامات التي لم نفكر فيها بعد لهذه التقنيات الجديدة في فهم وإنشاء بنى البروتين. فهذان النهجان يعملان جنبًا إلى جنب، حيث يتنبأ «ألفا فولد 2» بالبنية والوظيفة من تسلسل الأحماض الأمينية، أما «روزيتا» فيوفر تسلسلًا من الأحماض الأمينية ليناسب بنية ووظيفة معينة.
فهم كيفية طي البروتينات ووظيفتها أمر بالغ الأهمية لتصميم أدوية جديدة، وهذا ما قد نراه مستقبلًا. ففي عام 2024، أطلقت شركة «جوجل ديب مايند» مشروعًا جديدًا باسم «أيزومورفيك لابس» (Isomorphic Labs)، ونموذجها «ألفا فولد 3» (AlphaFold3)، وهي نسخة مطورة من برنامج «ألفا فولد 2» لا تتنبأ ببنى البروتين فحسب، بل تحدد أيضًا مواقع الارتباط المحتملة للجزيئات الصغيرة التي نسميها الإنزيمات، وسيسهل هذا التقدم على الباحثين تصميم الأدوية التي تستهدف بدقة البروتينات الصحيحة.
فـالإنزيمات، وهي نوع من البروتينات، تعمل كعوامل حافزة في التفاعلات الكيميائية الحيوية، ويمكنها تسريع هذه العمليات أو تنظيمها لعلاج أمراض مثل السرطان أو السكري. غالبًا ما يستهدف الباحثون إنزيمات معينة تشارك في مسارات المرض، وبالتنبؤ ببنية البروتين، يمكن للعلماء معرفة أين يمكن أن ترتبط تلك الإنزيمات مع الأدوية المرشحة المحتملة بها، وهي الخطوة الأولى في تصميم أدوية جديدة.
المصادر:
1) https://www.nobelprize.org/prizes/chemistry/2024/press-release/
2) https://www.chemistryworld.com/news/protein-design-and-structure-prediction-wins-chemistry-nobel-prize/4020310.article
3) https://www.nobelprize.org/uploads/2024/10/popular-chemistryprize2024-3.pdf
4) https://theconversation.com/machine-learning-cracked-the-protein-folding-problem-and-won-the-2024-nobel-prize-in-chemistry-240937
5) https://www.isomorphiclabs.com/articles/rational-drug-design-with-alphafold-3#:~:text=For%20Isomorphic%20Labs%2C%20AlphaFold%203%20equips%20our%20drug,us%20to%20take%20novel%20approaches%20to%20drug%20design.