تغير أبعاد خيوط المغزل يؤثر سلبًا على نمو أجنة الإنسان

“أعظم لحظة في تاريخ الإنسان هي اكتشاف النار” هذا رأي «أماندا فورمان» (Amanda Foreman)، المؤرخة والمؤلفة الإنجليزية، الذي ذُكِر في الوثائقي الشهير «البدايات: رحلة البشرية» (Origins: Journey of Humankind) على شبكة «ناشيونال جيوغرافيك» (National Geographic). إذا تأملنا الأمر سنجد أن اكتشاف النار أمر لا مثيل له، وبدونه، لا نستطيع أن نتخيل الشكل الذي من الممكن أن يكون عليه العالم. تبدأ القصة منذ مليون سنة ماضية أو أكثر. كيف يمكن لاكتشاف لم نقصده، ومن المحتمل أننا ارتعبنا لحظة رؤيته، أن يساهم في رسم التاريخ وتشكيل الحضارة، ليس ذلك فقط، ولكن أيضًا في بناء وتشكيل بنيتنا البيولوجية على صورتها الحالية؟ (2).

ما يثير اهتمامي ليس اكتشاف النار بحد ذاتها، ولكن فكرة البدايات أو الأحداث الأولى التي تساهم في تشكيل مصير الإنسان. إذا نظرنا إلى مثل هذه الأحداث على المستوى الخلوي، ولا أقصد بذلك الخلايا المكونة للأنسجة، بل الخلية التي تمثل كل فرد منا في لحظة ما في الماضي؛ الخلية التي تعرضت لعدد هائل من الانقسامات حتى كوَّنت بنيتنا البيولوجية الكاملة وأصبحنا ما نحن عليه الآن؛ هذه الخلية تُسمَّى «الزيجوت» (Zygote). كما قرأت في العنوان، يوثر شكل خيوط المغزل الأول على تعرض الإنسان للخطر. لكن ما هذه الخيوط؟ وما خلية الزيجوت؟ دعنا نكمل.

يندمج المشيج المذكر الناضج مع المشيج المؤنث الناضج لاجتماع المادة الوراثية لكلا الأبوين في خلية واحدة تُعرَف بالزيجوت. وتُعرَف هذه العملية -اندماج المشيج المذكر مع المشيج المؤنث- بـ «الإخصاب» (Fertilization). تحمل المادة الوراثية المعلومات الكاملة اللازمة لبناء جميع الأنسجة وتنظيم جميع العمليات الحيوية اللازمة للنمو وبقاء الإنسان على قيد الحياة. (4)

مراحل النمو الجنيني في الإنسان معقدة؛ حيث يبدأ من خلية واحدة ليصل إلى عديد من الخلايا عن طريق انقسامات متتابعة، فتتكون طبقات من الأنسجة ومن ثم تتكون الأعضاء. لنضع كل هذا جانبًا ونسلط الضوء على أول انقسام خلوي تقوم به هذه الخلية؛ الزيجوت. بالطبع حدث ملئ بالتفاصيل، هيا نرى بعضًا منها. (3)

توجد عدة أنواع من الانقسامات الخلوية، لكن تلجأ الخلية في هذه المرحلة إلى «الانقسام الميتوزي» (Mitosis)، وفيه تنقسم الخلية الأم إلى خليتين متطابقين لضمان انتقال المادة الوراثية كاملة لكل خلية من الخليتين الجديدتين الناتجتين، فأي زيادة أو نقص في المادة الوراثية يؤثر -بلا شك- على حياة الإنسان، أو قد يتسبب ذلك في حدوث أمراض وراثية. (3)

تمر الخلية خلال الانقسام الميتوزي بعدة مراحل أو أطوار؛ يُسمَّى أولها «الطور التمهيدي» (Prophase). في هذا الطور تُكوِّن الخلية «مغزل الانقسام الميتوزي» (Mitotic Spindles)، وهو خيوط مصنوعة من ألياف قوية تساهم في تشكيل هيكل الخلية، وتساعدها أيضًا على الهجرة ويتكون من «النُبَيبات الدقيقة» (Microtubules). تتمثل وظيفة هذه الخيوط في تنظيم وفصل الكروموسومات أثناء عملية الانقسام الخلوي وضمان وجودها في أماكنها المناسبة لكي تحتوي كل خلية ناتجة على المجموعة الكاملة من المعلومات الوراثية. (7)

الكروموسومات هي مركبات تشبه الحرف الإنجليزي (X)، ويحتوي كل كروموسوم على المعلومات الوراثية في شكل جينات مصطفة حول بروتينات تُسمَّى «الهستونات» (Histones). يلتقي ذراعا الكروموسوم في المنتصف في منطقة تُسمَّى «القسيم المركزي» (Centromere)؛ وهو الموضع الذي تتصل به خيوط المغزل لفصل الكروموسومات وتحريكها. هذا الحدث رئيسي في عملية الانقسام الخلوي وتقسيم المادة الوراثية على الخلايا الناشئة. (1)

Credit: National Human Genome Research Institute.
صورة توضح التفاف الحمض النووي (DNA) حول الهستونات وتكوين الكروموسوم.

أثناء النمو الجنيني للإنسان تكون الأجنة التي في المراحل الأولى من الانقسام أكثر عرضة للمشاكل مثل الانقسام الخلوي المباشر، أو لحدوث خطأ أثناء توزيع المادة الوراثية على أول خليتين، بالإضافة إلى حدوث مشاكل مثل تعدد الأنوية في الخلية المفردة. تحدث جميع هذه المشكلات غالبًا في الانقسام الميتوزي الأول. إلى الآن تظل الآليات التي تحدث بها هذه العلل مجهولة، ولكن في دراسة حديثة نُشِرَت في دورية «نيتشر كوميونيكيشن» (Nature Communication) تَبيَّن وجود ارتباط بين شكل خيوط المغزل في الانقسام الميتوزي الأول والخلل الوراثي الحادث في أجنة الإنسان. (5)

استخدم الفريق التابع لـ «جامعة أكيتا اليابانية» (Akita University, Japan) تقنيتي «التوسيم الفلوري» (Flourescent Labeling) و«المجهر متحد البؤر» (Confocal Microscope) لمراقبة الارتباط بين شكل خيوط المغزل والتشوهات النووية الحادثة في أجنة الإنسان أثناء الانقسام الميتوزي الأول. استخدم الفريقُ المجهرَ متحد البؤر لمراقبة حركة «الحمض النووي الريبي منقوص الأكسجين» (DNA) والنُبَيبات الدقيقة المُكوِّنة لخيوط المغزل باستخدام صبغات فلورية؛ إحداها ترتبط بالحمض النووي (DNA) والأخرى ترتبط ببروتين «التيوبيولين» (Tubulin) المُكوِّن للنُبَيبات الدقيقة. (5)

اكتشف الفريق تنوعًا في أشكال خيوط المغزل وذلك عن طريق رصد الخيوط في نهاية «الطور الاستوائي» (Metaphase) بزاوية توفر رؤية واضحة. قام الفريق بحساب «نسبة الأبعاد» (Aspect Ratio, AR) الخاصة بخيوط المغزل لفهم هندسة الخيط وتأثيره على المادة الوراثية.

اكتشف الفريق أن الخيوط ذات نسبة الأبعاد الكبيرة تكون حادة ولها أقطاب محددة وتتسم بالاستطالة، الأمر الذي يسمح بفصل سليم للمادة الوراثية مما يضمن إنتاج خلايا أحادية النواة. على الجانب الآخر؛ الخيوط ذات نسبة الأبعاد المنخفضة تكون مزدوجة ومتداخلة ولها أقطاب غير مركزية ويغلب عليها الشكل الدائري، وتتسبب هذه المواصفات في خلل أثناء فصل الكروموسومات، الأمر الذي ينتج عنه خلايا متعددة النوى مما يعرض خلايا الجنين للتلف السريع ومشكلات أثناء مراحل النمو الجنينى.

Credit: Yuki Ono, Department of Obstetrics and Gynecology, Akita University Graduate School of Medicine.
صورة توضح اختلافًا في شكل خيوط المغزل لاختلاف الأبعاد. في الصف الأول (الأعلى) نرى أن خيوط المغزل ذات نسبة الأبعاد الكبيرة تكون حادة ولها أقطاب مركزية وتتسم بالاستطالة، أما في الصف الثاني (الأسفل) نرى خيوطًا غير واضحة، وأقطابًا غير مركزية وتتسم بالدائرية.
Credit: Yuki Ono, Department of Obstetrics and Gynecology, Akita University Graduate School of Medicine.
يوضح الصف الأول في الصورة خيوط المغزل السليمة ذات نسبة الأبعاد الكبيرة باللون الأرجواني وهي تفصل الكروموسومات ذات اللون الأخضر، حيث تنتج خليتان تمتلك كلٌّ منهما نواة واحدة سليمة. أما في الصف الثاني، فتظهر خيوط المغزل ذات نسبة الأبعاد المنخفضة والأقطاب غير المركزية (اللون الأرجواني) وهي تفصل الكروموسومات التي تمثل المادة الوراثية (اللون الأخضر)، حيث يحدث خلل وتنتج خليتان تمتلك كلٌّ منهما عدة أنوية فيما يُعرَف بتعدد النوى مما ينتج عنه نمو غير سليم للأجنة.

الدراسة على المستوى الخلوي أمر في غاية في الأهمية، وذلك لأن الخلية تمثل الوحدة الوظيفية والتركيبية للكائن الحي. هذا الفهم على هذا المستوى قد يساعد في الكشف عن الآليات التي تحدث بها الأمراض المختلفة، مما قد يساهم في تطوير تكنولوجيا جديدة تساعد في العلاج أو الوقاية (6). ذكر فريق جامعة أكيتا أن استقرار خيوط المغزل وتكونها بالأبعاد الهندسية السليمة هام في توزيع المادة الوراثية وتكوين الأنوية في الخلايا الناتجة، وأضاف أن الكشف عن الآلية التي توضح الارتباط بين خيوط المغزل ومراحل الانقسام الخلوي في أجنة الإنسان يساعد في تحسين معدل نجاح تقنيات الإنجاب لدى البشر.(5)

المصادر:

1) Centromere. Genome.gov. (n.d.). https://www.genome.gov/genetics-glossary/Centromere#:~:text=%E2%80%8BCentromere&text=Following%20attachment%20of%20the%20spindle,end%20up%20with%20identical%20DNA.

2) Gowlett, J. A. (2016). The discovery of fire by humans: A long and convoluted process. Philosophical Transactions of the Royal Society B: Biological Sciences, 371(1696), 20150164. https://doi.org/10.1098/rstb.2015.0164

3) Khan Academy. (n.d.). Khan Academy. https://www.khanacademy.org/science/ap-biology/cell-communication-and-cell-cycle/cell-cycle/a/phases-of-mitosis

4) Khan, Y. S. (2023, April 17). Embryology, week 1. StatPearls [Internet]. https://www.ncbi.nlm.nih.gov/books/NBK554562/

5) Ono, Y., Shirasawa, H., Takahashi, K., Goto, M., Ono, T., Sakaguchi, T., Okabe, M., Hirakawa, T., Iwasawa, T., Fujishima, A., Sugawara, T., Makino, K., Miura, H., Fukunaga, N., Asada, Y., Kumazawa, Y., & Terada, Y. (2024). Shape of the first mitotic spindles impacts multinucleation in human embryos. Nature Communications, 15(1). https://doi.org/10.1038/s41467-024-49815-8

6) Why Cell Biology is so important?. British Society for Cell Biology. (n.d.).

https://bscb.org/learning-resources/softcell-e-learning/why-cell-biology-is-so-important/

7) Mitosis spindle. Mitosis Spindle – an overview | ScienceDirect Topics. (n.d.). https://www.sciencedirect.com/topics/immunology-and-microbiology/mitosis-spindle

Exit mobile version