كم من أفكارك تعتقد بأصالتها وبأنها تعبر عن نفسك؟ ماذا لو كان ما تفكر فيه لا ينبع بالضرورة منك وإنما من كائن آخر يتحكم بعقلك؟
قد تظن هذه مقدمة جيدة لقصة خيال علمي تعتمد على نوع من التكنولوجيا التطورية. لكن -وللمفارقة- فهذه قصة حقيقية تحيط بنا من كل جانب وموجودة منذ ملايين السنين على كوكب الأرض قبل وجود الإنسان حتى! إنها قصة الطفيليات.
نظرة عامة على الكائنات الطفيلية:
العلاقات الطفيلية بين الكائنات هي العلاقات التي يعيش فيها أحد الكائنات بالسطو على الموارد الخاصة بكائن آخر. يعيش الكائن الطفيلي على جسم الكائن المضيف/العائل أو بداخله، ويتغذى إما على غذائه أو على الكائن العائل نفسه أو أجزاء منه. في المقابل لا يقدم الطفيل أي فائدة للكائن المضيف، وعلى العكس فمعظم العلاقات الطفيلية هي علاقات مَرَضية بالنسبة للمضيف. ومع ذلك، فبقاء الكائن المضيف هو شرط أساسي لبقاء الطفيل وهو شيء يحرص عليه الطفيل حرصًا شديدًا.
وعلى الرغم من الصورة النمطية للطفيليات المجهرية أو الديدان، فإن العلاقة الطفيلية لا تصف كائنات بعينها وإنما تصف العلاقات بين هذه الكائنات. فيمكن للطفيل أن يأتي بأي شكل وحجم، طالما أنه يلتزم بشروط العلاقة مع العائل. وبالتعريف؛ فإن لفظة «طفيل» تشمل البكتيريا والفيروسات والحشرات والنباتات، بل والحيوانات أيضًا. لكن علم الطفيليات لا يهتم إلا بدراسة بعض أنواع الطفيليات الدقيقة والديدان.
تنقسم حياة الكائنات الطفيلية بين جسد المضيف وخارجه، وقد تشمل عدة أجسام لعدة عوائل يجب على الطفيل أن يمر بهم جميعًا وبترتيب ثابت. يمكن للطفيل أن يعيش على سطح جسم المضيف «طفيل خارجي» (Ectoparasite) أو أن يعيش بداخله «طفيل داخلي» (Endoparasite)، ويجب عليه أن يكون قادرًا على التكيف بين كل هذه البيئات المختلفة وأن يمر بأطوار عدة خلال دورة حياته حتى يصل لهدف كل كائن حي؛ وهو التكاثر وبقاء النوع.
تأتي الطفيليات بمختلف الأشكال والألوان، ويفترض أن يبلغ عددها حدًا لا يمكن حصره، لكن أهمها هي تلك الأنواع التي تصيب الإنسان، والتي يتم تقسيمها حسب صفات مشتركة إلى ثلاث فصائل رئيسية:
الأوليات مثل الأميبا، والديدان مثل الديدان الشريطية، والمفصليات.
«الأوليات» (Protozoa): هي كائنات وحيدة الخلية تعيش داخل جسم العائل وخارجه وتتكاثر بالانقسام أو بالتكاثر الجنسي. تنتقل الأوليات بين الناس عن طريق الطعام أو المياه الملوثة وتتسبب -غالبًا- في أمراض الجهاز الهضمي، لكن بعضها الآخر يعيش في الدم مثل: «متصورة الملاريا» (Plasmodium Malariae) التي تسبب أعراض حمى الملاريا الشهيرة بفترات النشاط والسكون بفارق 48 ساعة، فيمكن للملاريا إذًا أن تنتقل للإنسان عن طريق ملامسته دمًا لمصاب، أو عن طريق لدغات البعوض الحامل للطور السابق من الطفيل.
«الديدان» (Helminths): كائنات متعددة الخلايا على شكل ديدان قد يبلغ طولها أكثر من 15 مترًا كما في حالة الديدان الشريطية البالغة. تصيب الديدان الإنسان عن طريق يرقاتها التي يمكن أن توجد في المياه الملوثة أو المأكولات غير النظيفة أو السمك غير المطهو، ثم تنمو تلك اليرقات داخل أمعاء الإنسان وتسبب أعراضًا كالغثيان والإسهال وأعراض الجهاز الهضمي المختلفة.
وتتنوع الطفيليات كذلك في عدد العوائل التي تحتاج إليها، فبعضها يحتاج إلى عائل واحد فقط يعيش بداخله ليتم عملية تكاثره، والبعض الآخر يحتاج إلى عدة عوائل، وبعضها يحتاج إلى «مضيف ناقل» (Vector) يحمل أحد أطوار الطفيل ليكمل دورته في جسم مضيف آخر، وغالبًا ما يكون هذا الناقل من المفصليات كما هي حالة البعوض في دورة حياة طفيل الملاريا.
طفيل «التوكسوبلازما» (Toxoplasmosis):
كما أشرنا فإن الطفيل يحرص على بقاء عائله لأنه يضمن بقاءه واستكمال دورة تكاثره؛ لهذا طورت الطفيليات استراتيجيات مختلفة لضمان بقائها وبقاء عائلها، من أغرب هذه الطرق وأكثرها دهشة هي تحكم الطفيل في جسم العائل وتصرفاته. هناك أمثلة عدة على تحكم الطفيليات؛ من تأثيرها على شكل العائل، وتغيير جنسه وتركيبه، وحتى التحكم في عقله.
من أشهر هذه الأمثلة هو ما يحدث في حالة الإصابة بالطفيل المسبب للتوكسوبلازما (Toxoplasma Gondii). نجد هذا الطفيل في أجساد معظم الكائنات الحية من ذوات الدم الدافئ، إلا أنه يتكاثر حصرًا داخل أجساد السنوريات من القطط الصغيرة والكبيرة كالأسود والنمور والفهود، وبخاصة فهو يفضل أجساد القطط المنزلية. وليصل إلى هدفه الأخير في أجساد القطط فإنه يستخدم كائنات أخرى كالقوارض والفئران وبعض أنواع الطيور كعوائل وسيطة، كما يصيب البشر أيضًا ويسبب عدوى خاملة تظل في الجسم للأبد وتُكوِّن ما يشبه التكيسات في الخلايا العصبية للبشر، لكنها في الأشخاص الأصحاء ذوي المناعة الجيدة، غالبًا لا تسبب أي أعراض، وقد لا يدري المصابون بإصابتهم. (4)
تكمن القدرة العجيبة لطفيل التوكسوبلازما في المشاهدات التي ثَبُتت على الفئران المصابة بالطفيل؛ فالدراسات توضح أن الفئران المصابة تتصرف بطريقة غير اعتيادية على عكس الفئران السليمة. فالفئران الطبيعية غير الحاملة للطفيل تتجنب رائحة القطط، بل وتهابها، وبالتالي تبتعد عن الأماكن التي يحتمل أن توجد بها القطط فتقلل من فرص التهامها بوسطة تلك القطط. أما الفئران المصابة فهي لا تتجنب رائحة القطط، بل وتشير بعض الدراسات أنها تشعر بانجذاب جنسي لتلك الرائحة، ما يجعلها تقضي مدة أطول بجوار القطط ويعرضها بالتالي لخطر الالتهام بواسطتها.
كما أشرنا، فإن القطط هي العائل الأساسي والوحيد الذي يستطيع طفيل التوكسوبلازما التكاثر بداخله، فسيطرته إذًا على مشاعر الفئران والتحكم في تصرفاتها تضمن في النهاية وصول الطفيل لهدفه الرئيس.
طرحت هذه المشاهدات التساؤل التالي؛ هل تتحكم تلك الطفيليات بالبشر مثلما تتحكم بالفئران؟
في عام 1991، وبمحض الصدفة، اكتشف العالم التشيكي «ياروسلاف فليجر» (Jaroslav Flegr) الباحث لأعوام طويلة في مجال الطفيليات وبخاصة طفيل التوكسوبلازما، أنه هو نفسه حامل للطفيل، وبالإضافة إلى أن هذه المصادفة جعلته مجال اختبارات له هو شخصيًا ولزملائه في قسم الطفيليات، فقد أثارت لديه بعض الشكوك عن تحكمه التام في أفكاره؛ إذ لاحظ في الآونة الأخيرة بعض التغييرات في صفاته الشخصية لم يستطع تفسيرها، أشياء مثل عدم شعوره بالخوف في مواضع كانت تستدعيه وعلى النقيض هروبه من مواجهات كان يحاط بها. (9)
افترض فليجر أن هذه التغيرات التي طرأت على شخصيته لا تعزو إلا لهذا الطفيل المستقر بداخل خلاياه العصبية، وأنه طفيل قادر على التحكم بمشاعر البشر وتصرفاتهم على نحو مماثل لما يستطيعه مع القوارض.
عازمًا على إثبات أثر العدوى بالطفيل على البشر، بدأ فليجر رحلته في دراسة الأشخاص المصابين وطبائعهم الشخصية ليجد في استطلاع رأي أجراه عام 1994 تشابهًا واضحًا في الصفات بين مجموعة المصابين وفروقًا واضحة بين المجموعة غير المصابة وبينهم.
استمرت الأبحاث التي تدرس تأثير الطفيل في عوائله من البشر والفئران معًا لتثبت في كل مرة أوجهًا جديدة لمدى سيطرة الطفيل على عوائله، ربما أكثر مما كنا نتوقعها. فهو يتحكم بدرجة ما بجنس المولود إذا كانت الأم حاملة للطفيل؛ فالعدوى لفترة طويلة ينتج عنها زيادة في نسبة المواليد الذكور. وهو كذلك يتحكم بصفات هذا المولود من تشوهات جسدية وعقلية، كما وجد أن 80% من أمهات الأطفال المصابين بمتلازمة داون كنَّ حاملات للطفيل. ثم إن الطفيل له تأثيرات على بعض الهرمونات والنواقل العصبية؛ فقد تبين ارتفاع نسب هرمون الذكورة بين حاملي الطفيل مقارنة بغيرهم، وتبين كذلك ارتفاع في نسب الناقل العصبي «الدوبامين» لدى المصابين. (9،10)
حاليًا توجد العديد من الأبحاث العلمية التي تربط وتؤكد العلاقة بين الإصابة بالطفيل والإصابة بأمراض ذهنية كالفصام تحديدًا، وزيادة احتمالية الانتحار لدى الأفراد المصابين. (11،12)
فهل تتحكم بعقولنا الطفيليات المجهرية لمنفعتها الشخصية؟
ليس تمامًا، فرغم هذا الإرث الطويل من الأبحاث التي تربط الصفات والأمراض العقلية لدى الأشخاص المصابين بالطفيل، إلا أن أيًا منها لم ينجح في توضيح الآلية التي يحدث بها هذا التحكم في العقل.
فأبحاث أخرى تشير إلى أن السر يكمن في فهم العلاقة السببية للمرض. فالعلاقة بين وجود الطفيل والإصابة بالفصام هي علاقة ترابطية وليست سببية. نعم يوجد الطفيل في أجساد معظم المصابين بمرض الفصام، لكن هل يعني هذا بالضرورة أنه هو المتسبب في المرض؟ بل وأي من الإصابات كانت سابقة للأخرى؟ الإجابة على تلك الأسئلة تعطينا فهمًا أوسع لعلاقة الطفيل بالأمراض الذهنية، فبدلًا من تعيينه سببًا للمرض يُنظَر إليه الآن على أنه مجرد عامل خطورة بيئي في تكون المرض، مثله في زيادة نسب الإصابة كمثل وجود ملوثات بيئية محيطة بالمريض. ووجهة النظر هذه أكثر اعتدالًا وفهمًا لما يحدث داخل أجسامنا من نظام معقد مترابط. ففي النهاية تختلف أجساد وعقول البشر عن الفئران وليس ضروريًا أن يسري علينا ما يسري على الفئران في تطور الأمراض والأفكار، ولهذا نحتاج إلى دراسة أعمق وأدق لبيان العلاقة الحقيقية بين استقرار طفيل داخل أجساد البشر وحقيقة حرية أفكارهم.
على الرغم من أن العلاقات التطفلية هي علاقات منفعة أحادية الطرف، وأنها في أغلب الأحيان علاقات مُمرِضة بالنسبة للعائل، فوجود هذه العلاقات وبقاؤها يمثل أهم أشكال التوازن البيئي بين الكائنات. فالطفيليات على تنوعها المفرط تمثل ما يقرب من نصف أشكال الحياة على كوكب الأرض، وبيد أننا لم نفهم بعد مدى تغلغلها في جميع صور الحياة، نظرًا لقصور دراسة الأنواع المُمرِضة للإنسان حصرًا عن باقي الأنواع، لا يمكننا إلا أن نتصور مدى تأصل علاقات نصف أشكال الحياة على سطح الأرض بالنصف الآخر من كائناته.(14)
المصادر:
2- https://www.cdc.gov/parasites/about/index.html
3- https://www.cdc.gov/diphyllobothrium/about/index.html
4- https://kids.frontiersin.org/ar/articles/10.3389/frym.2018.00058-ar
5- https://www.frontiersin.org/journals/ecology-and-evolution/articles/10.3389/fevo.2019.00369/full
6- https://www.sciencedirect.com/science/article/abs/pii/S0065345410410050
7- https://www.cdc.gov/toxoplasmosis/about/index.html
8- https://journals.plos.org/plosone/article?id=10.1371/journal.pone.0023277
9- https://folia.paru.cas.cz/savepdfs/fol/2010/02/01.pdf
10- https://www.ncbi.nlm.nih.gov/pmc/articles/PMC2526142/
11- https://link.springer.com/article/10.1007/s00436-017-5478-y
12- https://www.sciencedirect.com/science/article/abs/pii/S0022395614002866
13- https://www.science.org/content/article/reality-check-can-cat-poop-cause-mental-illness
14- https://www.sciencedirect.com/science/article/abs/pii/S0006320719319937
مصادر الصور المرفقة:
1- https://archive.bmh.manchester.ac.uk/infection/parasitology/
3- https://stablediffusionweb.com/image/5589059-parasite-s-control-over-a-young-man-s-mind