هل حدث يومًا في طفولتك أن أعطاك الطبيب دواءً مخدرًا قبل إعطائك إبرة لتكف عن البكاء، وبالفعل شعرت بألم أقل؟ وعندما صرت كبيرًا، هل طلب منك والدك يومًا شراء دواء مسكِّن محدد كان قد اعتاد عليه، وعدم شراء أي نوع آخر غيره لأن الألم لا يزول إلا بالدواء الذي اعتاد عليه؟ ولكن هل يخف الألم بتوهم التخدير، ولا يزول تمامًا مع أي مسكن غير الذي اعتدت عليه فعلًا أم أنه الوهم؟
الحقيقة هي أن للوهم تأثيرًا فعالًا كما للدواء تأثير، وهو ما يُعرَف في الطب بـ«تأثير الدواء الوهمي» (placebo effect).
ما هو «الدواء الوهمي» (placebo)؟
الأدوية الوهمية عبارة عن مواد أو أجهزة أو علاجات أخرى تفتقر إلى أي مكونات علاجية أو آليات دوائية فعَّالة.
ما هو تأثير الدواء الوهمي؟
هو ظهور تأثير إيجابي يُعزى إلى استجابة الدماغ للسياق الذي يُعطى فيه الدواء، وليس إلى الدواء نفسه؛ أي أنه تحسن في حالة المريض لأمور غير مرتبطة بفاعلية الدواء.
أما إذا ظهر تأثير سلبي للسياق المرتبط بتناول الدواء، كزيادة شدة الألم مثلًا، فإن هذه الحالة تُعرَف بـ«تأثير نوسيبو» (Nocebo effect).
هناك كثيرٌ من الممارسات التي يتضمنها الطب الشعبي يُرجَّح أن تعود فعاليتها إلى تأثير الدواء الوهمي، حيث لم ينجح العلم في إثبات أي فعالية دوائية لها، وذلك مثل استخدام الأحجار الكريمة أو التمائم للشفاء من مرض معين، أو استخدام زيت الثعبان في علاج التهاب المفاصل والعضلات.
كيف يحدث ذلك؟
آليات تأثير الدواء الوهمي
أُجرِيت العديد من الأبحاث التي تهدف لدراسة تأثير الدواء الوهمي. إحدى هذه الدراسات كشفت وجود نشاط في «القشرة الأمامية الجبهية» (Prefrontal cortex, PFC)، والتي تتحكم في الاستجابات اللا إرادية ومنها الاستجابة للمؤثرات المؤلمة، وارتبط هذا النشاط بوجود سياق نفسي وإشارات لفظية محفزة.
قام الباحثون بإعطاء ثلاثة كريمات غير فعالة إلى ثلاث مجموعات من المشاركين، وشُكِّلت قناعة لدى المشاركين بأن هذه الكريمات مختلفة التركيز ومسكنة للألم، ثم قام الباحثون بتطبيق مؤثر مؤلم على الجلد المعالَج بهذه الكريمات. وخلال فترة التدريب، خُفِّفت درجة المؤثر المؤلم بشكل متفاوت لدى الثلاث مجموعات، حيث خُفِّض قليلًا مع تركيز الكريم الوهمي المنخفض، وكثيرًا مع التركيز العالي. كان الهدف من هذه الخطوة تكوين توقعات وخبرات لدى المشاركين بشأن فاعلية الدواء الوهمي.
بعد ذلك أُجرِيت التجربة بتطبيق نفس درجة الألم على جميع المشاركين، ولكن أظهرت النتائج انخفاضًا كبيرًا في الألم لدى المجموعات التي كانت تعتقد أنها تُعالَج بتركيز عالٍ من الكريم المسكن، مقارنة بأولئك الذين اعتقدوا بانخفاض تركيز المسكن لديهم!
ماذا حدث إذًا؟
جميع المشاركين تعرضوا لنفس درجة الألم، ولم يُطبَّق عليهم أي نوع من الكريمات المسكنة الفعالة؛ كانت جميعها كريمات غير فعالة تجاه الألم ومتطابقة تمامًا، ولكن انخفضت شدة الألم عند البعض بدرجة كبيرة، وعند الآخرين بدرجة أقل، والسبب في ذلك هو تشكيل قناعة مسبَقة مفادها أن الألم انخفض كثيرًا عند تطبيق الكريم الذي يُعتقَد بأنه عالي التركيز، وقليلًا مع استخدام الكريم منخفض التركيز، وذلك بتلاعب الباحثين في شدة المؤثر أثناء مرحلة التدريب. لذا، عند إعادة استخدام الكريمات، استدعى المشاركون الذكرى السابقة، وتأثرت استجاباتهم العصبية للقناعات المشكَّلة لديهم بشأن فاعلية الدواء. في الدراسة السابقة، كان تأثير الدواء الوهمي تابعًا بشكل كبير لذكريات المريض والإشارات اللفظية، وهما عاملان ضمن العوامل المرتبطة بسياق تقديم الدواء، والتي يُعزى إليها تأثير الدواء الوهمي.
العوامل المؤثرة في استجابة الجسم للدواء الوهمي
عند تناول دواء معين، فإن الدماغ البشري يلتقط عوامل متعددة محيطة بهذا الدواء، ويترجمها بما يساهم في تعزيز استجابة الجسم لهذا الدواء. تنقسم هذه العوامل إلى: عوامل خارجية تُعرَف بـ«السياق الخارجي» لإعطاء الدواء (External context)، وعوامل داخلية تُعرَف بـ«السياق الداخلي» (Internal context).
يشمل السياق الخارجي العوامل الآتية:
- الدواء نفسه: عند تناول المريض لأحد الأدوية، فإن العلم بأنه دواء في حد ذاته وأنه مخصص لعلاج الحالة المرضية التي يعاني منها يحسِّن من استجابة الجسم لهذا الدواء.
- مكان تناول الدواء: يترك تداوي المريض داخل المشفى انطباعًا عنده بالأمان، الأمر ذاته يحدث عند رؤية المعطف الأبيض.
- الإشارات الاجتماعية: وهي من أهم العوامل؛ فمحاوطة المريض ببيئة اجتماعية داعمة ومتفهمة يساعد كثيرًا في استجابته للدواء، ومن ذلك تعامل المريض مع طبيب مختص يثق به.
- الإشارات اللفظية: كأن يؤكد الطبيب للمريض بأن هذا الدواء فعال للغاية، وأنه سيلاحظ تحسنًا كبيرًا في وقت قصير.
أما السياق الداخلي، فيشمل ما يلي:
- ذكريات المريض: عند تناول المريض لنفس الدواء الذي أحدث فارقًا صحيًا من قبل، يستعيد الدماغ هذه الذكرى ويبدأ في تشكيل استجابة تتضمن نفس التأثير السابق.
- توقعات المريض: كأن يتوقع أن هذا الدواء سيحسن من حالته المرضية بشكل مؤكد.
- عواطف المريض: كشعوره بالأمان وانعدام القلق والتوتر.
- تقييم المريض للدواء، والسياق الدوائي، وربطه بالبقاء على قيد الحياة، أو تحسين جودتها، وتأثيره على صحته: فيبدأ الدماغ بطرح أسئلة مثل: هل هذا الدواء سيؤثر إيجابًا على حالتي الصحية؟ هل سيجعلني أشعر بالراحة؟ هل سيبقيني على قيد الحياة؟ والإجابة على هذه الأسئلة تشكل مُحدِّدًا هامًا لمدى تأثير الدواء وفاعليته.
استخدام الدواء الوهمي في تجارب الأدوية الفعالة
في التجارب السريرية الدوائية، يُستخدَم الدواء الوهمي لتقييم فعالية الدواء الحقيقية وتمييزها عن الاستجابات النفسية للمريض، وذلك بإعطاء مجموعة من المرضى محلولًا لا يحتوي على أي مواد فعالة، مع إيهامهم بأنه دواء حقيقي لمرض يعانون منه، وفي نفس الوقت يتم إعطاء مجموعة أخرى الدواء الذي يحتوي على المادة الفعالة التي هي محل اختبار. وبمقارنة نتائج التجربة وتسجيل استجابات المرضى من كلا المجموعتين، يتم تقييم الفعالية الحقيقية للدواء محل النظر.
الأدوية الوهمية وتأثيرها على الصحة
استُخدِمت الأدوية الوهمية عبر تاريخ الطب لتهدئة مشاعر المرضى، إذ يُعتقَد بقدرتها على جعل المرضى يشعرون بتحسن، وما زالت تُستخدَم لهذا الغرض على نطاق واسع. ولكن ليس هذا كل ما في الأمر، حيثُ أشارت الدراسات البحثية لوجود تأثيرات واضحة للدواء الوهمي على بعض الأمراض، مثل: الألم المزمن، الاكتئاب، الربو، ومرض باركنسون.
كما يمكن أن تُظهِر الأدوية الوهمية تأثيرًا علاجيًا بحجم تأثير الأدوية الفعالة، أو حتى بدرجة أكبر، ويمكن كذلك أن تُحسِّن جودة الحياة لفترة تمتد لشهور وأكثر في بعض الحالات، وخاصة في أمراض القلب والأوعية الدموية، حيث ارتبط الالتزام بتناول الدواء الوهمي بانخفاض في معدل الوفيات.
تأثير الدواء الوهمي على الغدد الصماء
يُمكن أن تؤثر العلاجات الوهمية على الاستجابات الهرمونية من خلال «منطقة تحت المهاد» (hypothalamus)، فعلى سبيل المثال: يمكن للإشارات اللفظية التي تُفيد بأن الدواء سيزيد من شدة الألم أن تؤدي إلى زيادة مستويات الكورتيزول في الجسم (Nocebo effect).
مثال آخر: يزيد دواء «سوماتريبتان» (Sumatriptan) -وهو مضاد لمستقبلات السيريتونين- من مستويات الكورتيزول وهرمون النمو في الدم. ولذلك، بعد الحقن المتكرر لهذا الدواء؛ يمكن أن يؤدي حقن «محلول ملحي» فقط إلى زيادة مستويات كلا الهرمونين.
تؤثر الأدوية الوهمية أيضًا على أنظمة هرمونية أخرى مثل تلك التي تُنظِّم الشهية. ففي إحدى الدراسات، تناول عدد من المشاركين حليبًا مخفوقًا وُصِف بأنه «شهي وغني»، وأظهر هؤلاء المشاركون انخفاضًا أكبر في مستويات هرمون الـ«الجريلين» (ghrelin) المحفز للجوع، مقارنةً بمشاركين آخرين تناولوا مخفوق الحليب الموصوف بأنه «معقول».
تُشير الدراسات السابقة أيضًا إلى أن السياق النفسي قد تكون له تأثيرات أكثر شمولية على الفسيولوجيا مما هو مُعترَف به حاليًا، ولكن لا يزال تأثير الدواء الوهمي محل دراسة واهتمام البحث العلمي؛ فشفرة الاتساق بين أنظمة الدماغ التي تُفعَّل بواسطة الدواء الوهمي لم تُفَك بعد، وكذلك الاستجابات الصحية كما في حالة الألم، أو مرض باركنسون، أو الاكتئاب.
هل تشترك الاستجابات المختلفة لتأثير الدواء الوهمي في نفس الآلية؟ فالملاحَظ أنه دائمًا ما تُنشَّط مناطق معينة في طور الاستجابة للدواء الوهمي مثل القشرة الأمامية الجبهية. فما هو الدور الوظيفي لهذه المناطق؟ يُفترَض أن عمليات التعلم وتشكيل الوعي المسبَق أمور ضرورية لتأثير الدواء الوهمي، فما هو الارتباط بين هذه العمليات وأنظمة الدماغ المتحكمة في ظهور الاستجابة الصحية؟
هذه الأسئلة وغيرها ما زالت مطروحة دون إجابة في نطاق الأبحاث العلمية، الأمر الذي يُشير إلى وجود غموض حول تأثير الدواء الوهمي، وأنه ما زال لدى العلم الكثير لتقديمه في هذا السياق.
المصادر
https://www.nature.com/articles/nrn3976
https://www.ncbi.nlm.nih.gov/books/NBK513296/