لكل عشاق القصص الملهمة في عالم الشركات الناشئة والعلوم المتقدمة، بين يديكم كتاب يأخذكم في جولة فريدة من نوعها. هذا الكتاب ليس مجرد سرد لأحداث، بل هو نافذة تطل على عالم مليء بالإصرار والعلم والابتكار.
الجزيء الذي يساوي مليار دولار: سعي شركة واحدة للحصول على الدواء المثالي -بقلم «باري ويرث» (Barry Werth)- هو سرد لبداية شركة (Vertex Pharmaceuticals) من لحظة تأسيسها عام 1989 على يد «جوشوا بوجر» (Joshua Boger)، وصولًا إلى الطرح الأوَّلي العام للشركة في البورصة الأمريكية، ومرورًا بالتحديات الأولى التي واجهت الشركة في السنوات الخمس الأولى من حياتها.
الكتاب رحلة مثيرة في عالم الأبحاث الدوائية والعقارات، ويشمل كلًا من التحديات البحثية، وكذلك تحديات شركات ريادة الأعمال، وبحثها المستمر عن التمويل والشراكات، والمواهب في أيامها الأولي.
قبل أن نتحدث عن الكتاب، عليك أن تتخيل أيها القارئ العزيز أنه في عالم الأبحاث الدوائية في بداية التسعينيات من القرن الماضي كانت نسبة نجاح برنامج بحثي عن عقار جديد هي 10%، أي أنه من بين كل عشرة برامج بحثية مختلفة تقوم بها الشركات المختلفة، كان هناك برنامج واحد فقط ينجح، فضلًا عن السنوات الكثيرة التي قد تستغرقها عملية البحث من البداية في محاولة الوصول للعقار ثم تجريبه على الحيوانات، ومن ثَمَّ التجربة على البشر حتى الحصول على ترخيص لتصنيع الدواء وبيعه من «إدارة الغذاء والدواء الأمريكية» (FDA).
ولهذا، قبل أن تبدأ أي شركة في إنتاج أي دواء وتحقيق أي أرباح، قد تحتاج هذه الشركة إلى تمويل كل هذه العمليات، والتي قد تصل تكلفتها إلى 250 مليون دولار أمريكي. كان هذا هو العالم الذي قرر جوشوا بوجر دخوله.
الكتاب يتناول السنوات الخمس الأولى لتأسيس شركة (Vertex Pharmaceuticals)، وقد صدر عام 1995 ويحوي 464 صفحة. الكتاب مقسم إلى جزئين ويحتوي كل منهم على عشر فصول بمجموع عشرين فصلًا ككل.
الجزء الأول (القصة)
يصف هذا الجزء الأيام الأولى لتأسيس الشركة على يد جوشوا بوجر، بعد تلقيه دعوة من أحد المستثمرين -وهو «كيفين كنسيلا» (Kevin Kinsella)- بالدعم الأوَّلي لوضع اللبنة الأولى. ويصف الكتاب انفصال جوشوا بوجر عن شركة (Merck)، أحد عمالقة الصناعات الدوائية حينها، وتأجيره مبنى قديمًا في بوسطن لشركته الناشئة التي كانت تحاول القيام بشيء جريء للغاية، لدرجة أن معظم الأشخاص في صناعة الأدوية وقتها شككوا في إمكانية تحقيقه من الأساس.
كانت الشركة “تسعى لتصميم الأدوية”، وليس مجرد استحضارها من الطبيعة وإجراء تعديلات عليها كما كان العرف؛ بل تصميمها ذرةً بذَرة، كما يصمم المرء ناطحة سحاب أو جهاز كمبيوتر. يصف هذا الجزء أيضًا الشراكات الأولى ما بين الشركة والبروفيسور «ستيوارت شرايبر» (Stuart Schreiber) من جامعة هارفارد، والتعقيدات الفنية لمثل هذه الشراكات وتضارب المصالح، فضلًا عن المحاولات الأولى لتمويل الشركة من خلال المحادثات مع بعض الشركات اليابانية والأوروبية.
الكتاب أيضًا سرد قصير للسِيَر الشخصية لبعض الشخصيات الأساسية، ودوافعها، والتحديات الشخصية والمهنية التي تواجهها في الشركة. وهذه السِيَر لا تتوقف على الأشخاص، ففي أثناء هذا الجزء ستجد نفسك تمر سريعًا على تأسيس وتاريخ شركة (Merck)، إضافة إلى ظروف تأسيس إدارة الغذاء والدواء الأمريكية (FDA).
ولما كان المشروع البحثي الأساسي للشركة في بدايتها هو مثبطات المناعة، ستجد الكتاب يتناول أيضًا موضوع زراعة الأعضاء في بداياتها، حيث كان رفض الجسم للعضو المزروع -بسبب رفض الجهاز المناعي للمضيف- أحد أهم أسباب فشل هذه العمليات وموت كثير من المرضى.
وفي هذا الإطار، يتناول الكتاب السيرة الشخصية للدكتور «توم ستارزل» (Tom Starzl)، أحد أهم الجراحين الرواد في هذا المجال. وينتهي هذا الجزء من الكتاب بعقد صفقة الشراكة مع شركة (Chugai) اليابانية، والتي مكَّنتها من الحصول على تمويل ساعدها جزئيًا في السنوات الخمس اللاحقة.
الجزء الثاني (المطاردة)
في هذا الجزء، تبدأ الأمور في التسارع، ويظهر التوتر والإحباط بين علماء الشركة في مواجهة التحديات البحثية الكثيرة التي تعرض لهم. في هذا الجزء ستجد الضغط الشديد الذي يضعه «ياماشيتا» (Mason Yamahita) على نفسه في محاولة الوصول للتركيب البلوري للجزيء المستهدف ومحاولة فهم آلية عمله، كما ستجد الطلب المتزايد على العينات وصعوبة تخليقها على يد «تومسون» (John Thomson).
ليس الأمر كله تحديات بالطبع؛ فستجد كذلك فرح العلماء بنتائجهم في بعض المراحل التي لا يلبث أن يتبعها إحباطات أخرى؛ فالبحث العلمي بطبيعته سلسلة من المحاولات والإخفاقات التي يمكن أن تنتهي بشيء من شأنه أن يغير العالم.
في هذا الجزء أيضًا ستجد صراع السبق العلمي بين العلماء داخل الشركة وخارجها وبين المجلات العالمية مثل (Nature and Science)، وكيف تحاول كل مجلة أن يكون لها السبق بنشر أحدث النتائج العملية. في هذا الجزء تتجلى إحدى الفروقات بين البحث في بيئة صناعية وبين البيئة الأكاديمية من حيث سبل التمويل وطريقة العمل والأهداف.
إضافة إلى التحديات العلمية، ستجد سعي الشركة للطرح العام في البورصة وما تنطوي عليه هذه المسألة من تقديرات وتوقيتات وفهم للأسواق المالية، كما ستظهر جليًا علاقة ذلك وتأثيره على العلماء، وخاصة المؤسسين منهم الذين يحملون أسهمًا في الشركة من بداية تأسيسها.
أفرد الكتاب لهذا السياق مساحة لا بأس بها لما يترتب عليها من التمويل، وطريقة إدارة الشركة، وتأثير ذلك على خارطة وأهداف الشركة، فضلًا عن التوتر الكبير الذي يحيط بعملية الطرح العام وتقلبات أسواق الأموال.
على الرغم من أن الكتاب ينتهي في منتصف التسعينيات ولم تكن الشركة قد أنتجت أية أدوية ولم تكن قريبة حتى من إنتاج أي عقار، فهو يوضح بشكل كبير ومثير عملية البحث العلمي وريادة الأعمال في قطاع الأدوية. ورغم أن هذا التلخيص السريع لم يتعرض لأي مصطلحات علمية للتبسيط، فإن الكتاب ممتلئ بهذه المصطلحات التي تم شرحها بشكل مبسط وواضح. لغة الكتاب الأصلية ليست باللغة السهلة من وجهة نظري، وربما يرجع ذلك لرغبة المؤلف في إضفاء طابع من الإثارة والتشويق على موضوع علمي دقيق.
الآن وفي نهاية عام 2024، وبالبحث عن الشركة نجد أن قيمتها السوقية تبلغ 104 مليار دولار أمريكي، وقد نجحت الشركة في إنتاج عدة عقاقير خلال قرابة ثلاثة عقود من الزمان. كيف حدث هذا؟ ربما نجد الإجابة عن ذلك في الكتاب الثاني لباري ويرث، والذي صدر عام 2014 بعنوان (The Antidote: Inside the World of New Pharma).
في الختام، نأمل أن يكون هذا المقال بداية للغوص في عالم الاستكشاف وريادة الأعمال لهذا القطاع الصناعي المهم، والذي يؤثر في حياة كثيرين منا. فمن منا لم يتناول دواء في نقطة ما من نقاط حياته!
المراجع
Werth, Barry. The billion-dollar molecule: The quest for the perfect drug. Simon and Schuster, 1995.