الذكاء الاصطناعي في الرعاية الصحية والبحث العلمي: سد الفجوة بين العلم والواقع
بقلم : معاذ فتح الله
ظهرت في السنوات الأخيرة قوة تكنولوجية ثورية غيرت المشهد التقني، ولتنوع قدراتها استطاعت تغيير مشهد العديد من المجالات المختلفة، وهي الذكاء الاصطناعي؛ قوة من الابتكار تفوق في كثير من الأحيان القيود البشرية، وبفضل براعتها الحاسوبية أصبحت تدفع بالبحوث الطبية نحو اكتشافات وتطبيقات رائدة بدقة وسرعة غير مسبوقة.
تكمن أهمية الذكاء الاصطناعي للأطباء والباحثين في مجال الرعاية الصحية في تقديم طرق مختلفة لتحليل كميات هائلة من البيانات وتحديد الأنماط والاختلافات بينها، والتي قد يستحيل على العقل البشري استيعابها، ومن خلال ذلك تستطيع تقديم حلولٍ دقيقة ومتخصصة كمخرجات في البحث العلمي والطب السريري على حد سواء.
التطبيقات المحتملة للذكاء الاصطناعي في البحث العلمي الطبي
بعد أن تمكن الباحثون من رؤية القدرات الهائلة لنماذج الذكاء الاصطناعي في المجال البحثي، قاموا بتطوير أدوات لتصميم وتجربة الجزيئات الدقيقة مثل البروتينات وتسلسلات الحمض النووي بشكل افتراضي. ونتيجة لذلك، وفرت هذه التقنيات فرصًا لا حصر لها في مجالات متعددة. من جهة أخرى، يُستخدم الذكاء الاصطناعي في مجال التطوير السريري للرعاية الصحية لمساعدة الباحثين في التشخيص والتدخل السريري، مما يقلل بشكل كبير من الأخطاء البشرية. هذه الأمثلة تُسلط الضوء على عدد قليل من التطبيقات المحتملة والعديدة للذكاء الاصطناعي في هذه المجالات.
- اكتشاف الأدوية وتطويرها
على مدى السنوات القليلة الماضية، شهد قطاع الأدوية زيادة كبيرة في رقمنة البيانات. ومع ذلك، يكمن التحدي في تطبيق هذه البيانات لتحسين وتسريع عمليات اختبار وطرح الأدوية الجديدة التي تستغرق وقتًا طويلًا قد يصل إلى عقود. من ناحية أخرى، استطاعت خوارزميات الذكاء الاصطناعي تحليل البيانات الجزيئية للمواد الفعالة وتحديد الخلايا والأعضاء المستهدَفة، ومن ثَم التنبؤ بفعالية الدواء. بفضل ذلك، يُمكن تحسين المركبات الفعالة وابتكار مركبات جديدة أكثر فاعلية. وتتم هذه العملية عن طريق محاكاة حاسوبية سريعة نسبيًا للدواء داخل جسد الإنسان، وهذا يقلل من تكاليف التطوير، ويحسن بشكل كبير من معدلات النجاح في طرح عقاقير جديدة في السوق.
2. الطب الدقيق والعلاج المخصص
لطالما كان الحلمُ الأسمى للأطباء والباحثين التمكّنَ من تخصيص علاج لكل مريض وفقًا لتركيبته الجينية التي تختلف بطبيعة الحال من شخص لآخر، هذا الاختلاف قد يؤدي إلى تباين كبير في استجابة المرضى للعلاج ذاته؛ فقد تكون استجابة المريض للعلاج إيجابية، وقد تكون سلبية تؤدي لتفاقم أعراض مرضه. لم يكن هناك ما يستطيع توقع ذلك حتى مكَّنت نماذج الذكاء الاصطناعي الباحثين من إجراء التدخلات الطبية للمرضى بشكل فردي بناءً على خصائصهم الفريدة من خلال تحليل بيانات المرضى المتنوعة، والتي تشمل: المعلومات الوراثية، والسجلات السريرية، وعوامل نمط الحياة. وبذلك يمكن أن تساعد هذه النماذج في تحديد استراتيجيات العلاج المثالي والتنبؤ باستجابة المريض لعلاجات محددة وتحسين الجرعات، وهو ما يعزز من جودة الرعاية الصحية عبر تقديم علاجات متخصصة أكثر فعالية.
3. أنظمة دعم القرار السريري
تساعد أنظمةُ دعم القرار المدعومة بالذكاء الاصطناعي الطاقمَ الطبي في اتخاذ قرارات علاجية قائمة على الأدلة من خلال تحليل بيانات عديدة للمريض مثل الأعراض الظاهرة، والسجلات الصحية الإلكترونية، والتصوير الإشعاعي، والتاريخ الطبي. يمكن لخوارزميات الذكاء الاصطناعي اقتراح خيارات التشخيص والتوصية بخطط العلاج وتقديم إرشادات في الأوقات الحرجة أثناء العمليات الجراحية أو الإجراءات المعقدة. هذا يحسن بشكل كبير من عملية اتخاذ القرار السريري، ويقلل من الأخطاء الطبية.
ما الذي تم تطبيقه بالفعل؟
- تطوير لقاحات فيروس كورونا باستخدام الذكاء الاصطناعي
في أحدث الأبحاث المتعلقة بتطوير اللقاحات، نجح فريق البحث في ابتكار خوارزمية ذكاء اصطناعي قادرة على توقع الهياكل ثلاثية الأبعاد للبروتينات المكوِّنة لـ«فيروس كورونا» (COVID-19) استنادًا إلى التسلسل الجيني للفيروس. وتُعَد البروتينات الفيروسية هدفًا أساسيًا لتصميم اللقاحات، حيث يمكن أن تثير استجابة مناعية ضد الفيروس. وتحديد هياكل هذه البروتينات يُعتبر مهمة معقدة تعتمد عادة على أساليبَ تجريبية تستغرق وقتًا طويلًا.
ومع ذلك، استطاع العلماءُ باستخدام تحليل الهياكل البروتينية تصميمَ لقاح جديد -بنظام تسلسل «RNA الرسول» (mRNA)- ذي استقرار عالٍ وبسرعة لم يكن من الممكن تحقيقها في السابق. وأظهرت النتائج زيادة مدهشة تصل إلى 128 ضعفًا في استجابة الجهاز المناعي للقاح، مما يشير إلى فاعلية عالية وقوية لهذا اللقاح المرتقَب.
2. تحليل بيانات الكلام للكشف المبكر عن مرض ألزهايمر
قام فريق من الباحثين في علوم الحوسبة بجامعة ألبيرتا في كندا بدراسة لاستكشاف إمكانات الذكاء الاصطناعي في اكتشاف تدهور القدرات المعرفية لدى مرضى «خرف ألزهايمر» (Alzheimer’s Dementia)، وقد تم تطوير نموذج قوي للذكاء الاصطناعي يُسمَّى «ويسبر» (Whisper) يستطيع تحليل البيانات الصوتية باللغتين الإنجليزية واليونانية لتحديد المصابين بدقة. استخدم الباحثون تقنيات متخصصة لاستخراج سمات محددة من المحادثات مثل مدة الكلمات، والتوقفات، ووضوح الكلام. ومن خلال تحليل هذه السمات، حقق النموذج دقة تصل إلى 69٪ في التمييز بين مرضى ألزهايمر والأفراد الأصحاء. أظهرت النتائج أن أنظمة الذكاء الاصطناعي تمتلك إمكانات كبيرة للتوسع في تطوير هذا النموذج واستخدامه بجميع اللغات وبدقة أفضل لتحسين نِسَب الكشف المبكر وعلاج هذا المرض المستعصي بشكل فعال.
3. التوقع والتشخيص المبكر في وحدات العناية المركزة
اكتسبت أساليب «تعلم الآلة» (Machine Learning) -وهي إحدى أساليب الذكاء الاصطناعي- شعبية في وحدات العناية القلبية (CCU) لأن حجم البيانات التي يجب التعامل معها عند إجراء البحوث السريرية في هذه الوحدات يُعَد هائلًا ويفوق القدرات البشرية، بل والقدرات الحاسوبية التقليدية أيضًا، لذلك يتم “تعليم الآلة” أو تدريب النموذج وتغذيته بالبيانات ليستطيع كسب الخبرة الكافية لفهمها، ومن ثَم إصدار القرارات. وبذلك، طور الباحثون خوارزميات ذكاء اصطناعي يمكنها -من خلال تحليل المتغيرات في السجلات الطبية الإلكترونية والبيانات من صور تخطيط صدى القلب- تحديدَ الأنماط والتنبؤ بالمضاعفات أو التغييرات المحتملة في حالة المريض، ويسمح هذا التنبؤ بالتشخيص المبكر والتدخل الفوري للطاقم الطبي لتقديم الرعاية الخاصة في الوقت المناسب.
التحفظات في استخدام الذكاء الاصطناعي في الطب السريري
يعتمد نجاح نماذج التعلم الآلي في تطبيقات الصحة الرقمية بشكل كبير على جودة البيانات المتاحة، ويتطلب بناءُ نماذج تعلم الآلة لوحدات العناية المركزة قواعدَ بيانات جيدة التنظيم للمرضى وذات حجم كافٍ وتسميات واضحة وميزات شاملة. ومع ذلك، غالبًا ما تفتقر قواعد البيانات هذه إلى المستوى المطلوب للتحقق من صحة النموذج.
أظهرت بعض الدراسات المنشورة حول النماذج التنبؤية للذكاء الاصطناعي مشكلات منهجية، ومشكلات أخرى مثل عدم كفاية أحجام العينات، والتعامل غير السليم مع البيانات المفقودة، مما يؤدي إلى تنبؤات أو قرارات خاطئة قد تهدد بشكل مباشر سلامة المرضى في حالة الاتكال عليها كليًا. لذلك، من الضروري إجراء تقييم دقيق والتحقق من صحة تلك النماذج.
على الرغم من المعدل المتزايد لتطبيق الذكاء الاصطناعي في الرعاية الصحية، إلا أنّه لا يوجد حاليًا إطار عمل شامل مقبول عالميًا يتم إجراؤه في مجال الذكاء الاصطناعي. لذلك، يلعب تطوير نماذج الذكاء الاصطناعي ذات الشفافية في التعامل مع البيانات الشخصية عالية الجودة دورًا حاسمًا في معالجة المسائل الأخلاقية المرتبطة بالذكاء الاصطناعي، وفي كسب ثقة المستخدمين.
وأخيرًا، أدى دمج الذكاء الاصطناعي في الطب إلى تغيير ثوري في منظومة الرعاية الصحية، مما أحدث طفرة في البحث الطبي ورعاية المرضى. وعلى الرغم من وجود تحديات واعتبارات أخلاقية وفنية، فإن إمكانات الذكاء الاصطناعي في تشخيص الأمراض وتحسين العلاجات لا تزال رائعة. ومع التطورات المستمرة والمتزنة، يَعِدنا الذكاء الاصطناعي بإحداث ثورة في الرعاية الصحية وتحسين حياة الأفراد في جميع أنحاء العالم.
المصادر:
He Zhang et al, Algorithm for Optimized mRNA Design Improves Stability and Immunogenicity, Nature (2023).
Jacob C. Jentzer, Anthony H. Kashou, Dennis H. Murphree, Clinical applications of artificial intelligence and machine learning in the modern cardiac intensive care unit, Intelligence-Based Medicine, Volume 7, 2023, 100089
Paul D, Sanap G, Shenoy S, Kalyane D, Kalia K, Tekade RK. Artificial intelligence in drug discovery and development. Drug Discov Today. 2021 Jan;26(1):80-93. doi: 10.1016/j.drudis.2020.10.010. Epub 2020 Oct 21. PMID: 33099022; PMCID: PMC7577280.
Pavel Hamet, Johanne Tremblay, Artificial intelligence in medicine, Metabolism, Volume 69, Supplement, 2017, Pages S36-S40
Z. Shah et al., “Exploring Language-Agnostic Speech Representations Using Domain Knowledge for Detecting Alzheimer’s Dementia,” ICASSP 2023 – 2023 IEEE International Conference on Acoustics, Speech and Signal Processing (ICASSP), Rhodes Island, Greece, 2023, pp. 1-2, doi: 10.1109/ICASSP49357.2023.10095593.