مفهوم الحكمة في علم الأعصاب

قال -تعالى-: {ومن يؤتَ الحكمة فقد أوتي خيرًا كثيرًا}.

اعتبر أفلاطون أن الحكمة هي ما يُمكِّن الإنسان من اتخاذ القرارات الصحيحة التي لها علاقة بالعالم المحسوس، وهي أيضًا المسار الذي يسلكه الإنسان، ويجب أن يكون هذا المسار متسمًا بالثبات والنقاء والوحدة والأبدية والخلود.

يعتقد بعض الناس أن الحكمة هبة خاصة لمَن يمتلك قدرات عقلية ومستويات عالية من الذكاء والروحانية، وأحيانًا السلطة. فهل الحكمة حقًا هبة؟ أم أنها صفة يمكن اكتسابها وتطويرها؟

سنحاول في السطور القادمة أن نستعرض مفهوم الحكمة في علم الأعصاب لمحاولة الإجابة عن هذين السؤالين.

علاقة الحكمة بعلم الأعصاب

في البحث المنشور في مجلة (Schizophrenia Bulletin)، تحت عنوان (Neurobiology of Positive Psychiatry)، تم تعريف الحكمة على أنها مجموعة من التفاعلات المركبة والمرتبطة بأنماط التفكير العقلي والسلوك، وتشمل: التعاطف، والقدرة على تنظيم المشاعر، وانعكاس القيم الداخلية للإنسان على سلوكه الظاهري؛ أي أنها تشترط وجود العلم الحقيقي مع العمل الواعي.

وجد الباحثون علاقة بين وجود الحكمة وطول الحياة وجودتها والصحة العامة (والصحة النفسية خاصة)، وأن لوجود المجتمع الداعم والعلاقات الفعالة ارتباط وثيق بنمو الأعصاب، وخاصة أعصاب القشرة المخية (وهي المسؤولة عن: التكيف، والاندماج، والذكاء العاطفي، والمرونة النفسية).

أوضح البحث كذلك أن زيادة المرونة النفسية تعمل على حماية الأشخاص الذين لديهم استعداد جيني وبيئي لأمراض مثل: الفصام، والاضطراب ثنائي القطب، وبعض الاضطرابات النفسية الأخرى؛ أي أن المرونة النفسية تمنع ظهور المرض رغم وجود العوامل الجينية والبيئية.

وهذا بعكس العزلة الاجتماعية، ومشاعر الوحدة والخزي، والشعور بفقدان الهوية؛ حيث أثبتت نفس الدراسة أنها تؤثر سلبًا على صحة الإنسان لدرجة تُماثِل -أو حتى تفوق- تأثير التدخين والسمنة ومرض ارتفاع ضغط الدم.

كان ذلك تأكيدًا لدراسات سابقة عن دور الوحدة والعزلة الاجتماعية في رفع نسبة الإصابة بأمراض القلب، وارتفاع ضغط الدم، والسكر، والاكتئاب، واضطرابات القلق والخرف (مجموعة من الأعراض تؤثر على الذاكرة والتفكير والسلوك)، والاعتلال العصبي.


سلامة الجهاز الهضمي من سلامة الدماغ

أشارت نفس الدراسة إلى وجود علاقة بين التهابات الجهاز الهضمي الناتجة عن  اعتلال البيئة
الداخلية للأمعاء (والتي تحتوي على البكتيريا النافعة والمسؤولة عن توازن بعض المواد الكيميائية في الجسم) وبين زيادة أمراض الفصام والاضطراب ثنائي القطب.

يتضح ذلك من خلال معرفتنا بوجود علاقة أخرى وثيقة تعبر عن التوازن بين هذه البكتيريا وبين بعض الإنزيمات والنواقل العصبية، أي أن جودة عملية الهضم وسلامة المعدة والأمعاء تعزز النمو العصبي والدماغي، وتزيد من تفاعل الانسان واندماجه الصحي مع بيئته.

ومن هنا ندرك أن الحكمة يمكن اكتسابها وتنميتها عن طريق زيادة مستويات التعاطف، وتنظيم المشاعر الروحانية، والمرونة النفسية، وهو ما حدث في عينات الدراسة. وهذه بعض الطرق التي تساعد في بناء الوصلات العصبية، وهو ما قد يساهم بدوره في تحسين جودة الحياة:

زيادة المرونة النفسية

المرونة هي القدرة على التكيف مع مصاعب الحياة، دون الوقوف عند الحدث المؤلم أو اللجوء إلى أساليب غير صحية للتأقلم، ويمكن اكتسابها عن طريق بناء مهارات تحمُّل المِحن.

العلاقات الفعالة

من المهم بناء علاقات إيجابية وداعمة، حيث إن العلاقات هي فرصة لاكتشاف الذات، كما أن طريقة تفاعلنا وطبيعة وجودنا مع الآخرين تحددان درجة النمو النفسي التي لدينا. يمنحنا وجود هذه العلاقات مساحة من الأمان، وتلك المساحة تساعدنا على الانفتاح والشفافية والصراحة والقبول بداخلها.

إيجاد المعنى وممارسة القبول والامتنان

إيجاد المعنى من أحداث الحياة التي نمر بها والآلام التي نقاسيها، والامتنان لكل اللحظات التي تصنع المعنى، وملاحظة الجوانب الإيجابية في الحياة، كل ذلك بمثابة دافع لاكتساب الحكمة والنمو النفسي والنضج الفكري. ومن ثَمَّ، المضي قُدُمًا، والاستمرار في الحياة.

العناية الذاتية

عبر الاعتناء باحتياجاتك ومشاعرك، وممارسة الأنشطة والهوايات، والحصول على قسط كافٍ من النوم، والحرص على روتين يومي فعال ونظام غذائي صحي.

تنظيم المشاعر

هناك العديد من الأنشطة التي يمكن أن تساعد على تنظيم المشاعر، مثل: الصلاة، والكتابة، والتأمل، والتنفس العميق أو تمارين اليقظة.

التعاطف

حسب كتاب (الذكاء الاجتماعي: علم النجاح الجديد)، يعتبر الكاتب فن التعاطف البُعد الخامس من أبعاد الذكاء الاجتماعي؛ وهو مدى وعينا ومراعاتنا لمشاعر الآخرين، والشعور بالارتباط الذي يشجعنا على التعاون معهم وتقبُّلهم كما هم عن طريق بناء سلوكيات معزِّزة للتعاطف -مثل التقدير والاحترام- عبر ثلاث أنماط سلوكية محددة، وهي:

  • الانتباه: الاهتمام الصادق بالآخر عن طريق: الإنصات، والتوجه بالجسد نحوه، والنظر في عينيه، والإيماء بالرأس.
  • التقدير: تقبُّل الآخرين واحترامهم، وتقبُّل آرائهم وعدم معاداتهم عند الاختلاف.
  • التوكيد: معاملة الآخرين من منطلَق رؤية احتياجاتهم ورغباتهم والإقرار بمشاعرهم، ويتطلب ذلك بذل الجهد لفهم الآخرين وبناء علاقات فعالة.

المصادر

  1. https://academic.oup.com/schizophreniabulletin/article/48/3/533/6546026
  2. https://www.mayoclinic.org/ar/tests-procedures/resilience-training/in-depth/resilience/art-20046311
  3. https://pubmed.ncbi.nlm.nih.gov/28003152/
  4. https://pubmed.ncbi.nlm.nih.gov/32383208/
  5. https://a5dr.com/bookidea/%D9%81%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%B9%D8%A7%D8%B7%D9%81/
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى