بين الماضي والحاضر: كيف تنجو القروش من الانقراض؟

منذ نحو 450 مليون عامٍ (1)، عاشت القروش على سطح الأرض في البحار والمحيطات، حتى قبل وجود الأشجار (2) والديناصورات (3)، واستطاعت النجاة من حوادث الانقراض الخمس الجماعية، مما يجعلها واحدة من أنجح الكائنات الحية البحرية في البقاء (4).

كيف نجت القروش من حوادث الانقراض الجماعية؟

في محاولة لمعرفة عوامل هذا النجاح، حلل العلماء (5) قاعدة بيانات أحفورية ضخمة لدراسة كيفية تأثر الأسماك «صفيحيات الخياشيم» (Elasmobranchii) بالانقراض الجماعي الأخير. وصفيحيات الخياشيم هي طائفة صغيرة من الأسماك الغضروفية تتمثل في أسماك القرش والراي و«الورنك» (Skate). ووفقًا لتحليلهم، فقد انقرضت نسبة تتجاوز 62% من صفيحيات الخياشيم عقب الانقراض الأخير. وكانت القروش أقل نسبةً في الانقراض، وأسرع في التعافي بعد انقضاء الحدث.

يحاول العلماء في هذه الدراسة تفسير ذلك بعدة أسباب:

أولًا: الأنواع التي تعيش في المحيط المفتوح وذات النُطُق الجغرافية الواسعة والمحدود وجودها بخطوط العرض العليا هي أكثر قدرة على النجاة.

ثانيًا: الأنواع «غير الاختصاصية» (Generalist) تكون معدلات بقائها أعلى من «الاختصاصية» (Specialist) مثل «القروش المفترسة العليا» (Top Predator). والفرق بين النوع غير الاختصاصي والاختصاصي (6) يعود إلى نمط التغذية والموئل الذي يعيشان فيه؛ فالأول يمكنه البقاء في نطاق بيئي واسع ومصادر غذائه متعددة، أما الثاني فتحدُّه بيئة ضيقة ومصادر غذائية محدودة.

ثالثًا: القروش الأقدم في الظهور في السجل الأحفوري تكون معدلات انقراضها أكبر.

وفي دراسة أقدم (7) بقيادة نفس الباحث الرئيسي للدراسة المذكورة أعلاه «غيوم غينو» (Guillaume Guinot)، فحص العلماء أحافير أسنانٍ لقروش نجت من الانقراض الجماعي الثالث، المعروف باسم «الموت العظيم»، فتبين لهم أن تلك القروش استطاعت النجاة عن طريق لجوئها إلى أعماق المحيط، حيث وُجدت تلك الأسنان، بعيدًا عن المياه السطحية المتسمة بنقص الأكسجين في ذلك الوقت. ومن المرجح كذلك أنها اتسمت بتنوع غذائها، حيث لم تكن من القروش المفترسة العليا محدودة الغذاء (8).

كيف تدهورت حال القروش في حقبة التأثير البشري أو «الأنثروبوسين» (Anthropocene

القروش الآن في طريقها لما يُعرَف بالانقراض السادس نتيجة النشاطات البشرية التي تؤثر على البيئة بشكل متسارع، فاحترار المحيطات يتسارع بمعدل أكبر بـ 10 إلى 100 مرة مما كان عليه أثناء الانقراض الجماعي الثالث (9). وقد وثّق الباحثون تناقص أعدادها في عدة دراسات؛ ففي دراسة استهدفت تقييم حالة الأسماك الغضروفية (القروش والراي والكايميرا) عالميًا، وجد الباحثون أن أكثر من ثلث (37.5%) تلك الأسماك مهدد بالانقراض، بينما هناك ثلاثة أنواع من المحتمل أن تكون قد انقرضت بالفعل، وثمانية أنواع تعرضت لانقراض محلي (10). وطبقًا لهذه الدراسة، تُعد الأنواع التي تعيش في المياه الساحلية الاستوائية وشبه الاستوائية هي الأكثر عرضة للتهديد.

أما فيما يتعلق بأسماك القرش والراي التي تعيش على الشعاب المرجانية، فقد وجد العلماء أن نحو ثلثي (59%) تلك الأنواع مهدد بالانقراض (11). وقد وجدت دراسة أخرى (12) أن أعداد خمسة أنواع من القروش التي تعيش على الشعاب المرجانية تناقصت بنسبة تتراوح بين 60% و73%. تعود أسباب ذلك التدهور -حسب نسبة المساهمة فيه- إلى الصيد الجائر بشكل أساسي، ثم فقدان الموائل، يليه التغير المناخي، ثم التلوث (10).

تعاني القروش أيضًا من آثار بالغة نتيجة التغير المناخي بشكل خاص. تتبع العلماء مسارات القروش في غربي المحيط الأطلنطي الشمالي بين عامي 2010 و2019، فلاحظوا (13) تغيرات سنوية في نطاقها الجغرافي وتوقيت هجراتها إلى خطوط العرض الشمالية بسبب ارتفاع درجة حرارة المحيطات؛ إذ امتدت هجراتها باتجاه القطب الشمالي وأصبحت تصل إلى خطوط العرض العليا في وقت أبكر من العام خلال أوقات ارتفاع درجات حرارة سطح البحر. ووفق دراسة أخرى (14)، فحتى صغار القروش التي اعتادت المكوث في مياه دافئة نسبيًا غيرت نطاقها الجغرافي في مياه شمال المحيط الهادئ، فبدلًا من بقائها في مياه جنوب كاليفورنيا، انتقلت إلى وسط كاليفورنيا نتيجة لاحترار المحيط.

هل يمكن للقروش أن تتمكن من النجاة؟

تعتمد نجاة جماعة من نوع ما على مدى قدرتها على التكيف مع الظروف البيئية المختلفة (15). ويعتمد تكيفها بشكل أساسي على مدى «تنوعها الجيني» (Genetic Diversity)؛ والتنوع الجيني يُعرَف بأنه أي مقياس يحدد حجم «التباين الوراثي» (Genetic Variability) داخل جماعة ما، والتباين الوراثي هو قدرة جماعة ما على إنتاج أفراد ذوي «أنماط جينية» (Genotypes) مختلفة (16). ولسوء الحظ، فإن القروش الحالية تتسم بانخفاض في تنوعها الجيني، وبالتالي فإن قدرتها على التكيف تقل. وقد وثّق الباحثون ذلك في أكثر من دراسة لعدة أنواع من القروش (18، 17).

تُعتبر الطفرات الجينية أحد العوامل المؤثرة في التنوع الجيني، بجانب «الانجراف الوراثي العشوائي» (Random Genetic Drift)، و«التدفق الجيني» (Gene Flow) عبر الهجرة، والانتخاب الطبيعي (16). وفي دراسة حديثة (19)، أجرى العلماء فحص «تسلسل الجينوم الكامل» (Whole Genome Sequencing) لنوع من القروش يدعى «القرش الكتاف»، وهي تقنية تمسح كامل الحمض النووي (DNA) الخاص بالقرش لمعرفة تتابع النيوكليوتيدات فيه، وبالتالي يمكن تحديد معدل الطفرات الحادثة في شريط الحمض النووي. وقد اتضح لهم أن معدل الطفرات يُقدّر بـ 7×10−10 لكل زوج من القواعد النيتروجينية لكل جيل؛ أي أنه أقل معدل طفرات بين الفقاريات، كما أنه أقل من معدل الطفرات في الإنسان بـ 17 مرة، وأقل من أبطأ الثدييات تطورًا.

شكل 1. صورة من المتحف الأسترالي توضح شكل القرش الكتاف (27)

يحاول العلماء، من خلال فهم التاريخ التطوري للقروش، التنبؤَ بقدرتها على التأقلم مع التحديات المناخية الحالية، رغم قلة المصادر المعنية بذلك (20). ولكون احتمالات تأقلمها عبر التكيف الجيني ضئيلة نتيجة لقلة معدل الطفرات فيها، يبحث العلماء إمكانية تأقلمها بـ «المرونة المظهرية» (Phenotypic Plasticity) (21)، وهي قدرة الأنماط الجينية الواحدة على إنتاج «أنماط مظهرية» (Phenotypes) مختلفة تبعًا للتغير البيئي (22). وتنشأ هذه الأنماط للعديد من الصفات، سواء كانت سلوكية أو شكلية أو وظيفية (23).

على سبيل المثال، في حالة القرش الحوتي، فهو يمارس ما يسمى بـ «التنظيم الحراري السلوكي» (Behavioral Thermoregulation)، حيث يقسم وقته بين المياه السطحية والعميقة لينظم درجة حرارة جسده (24). وقد تحدث الاستجابات الوظيفية المرنة عبر تعديلات أيضية وتعديلات في وظائف الميتوكوندريا كما هو الحال مع القرش الكتاف، استجابةً لنقص الأكسجين (21). كما أن هناك تغييرات قد تحدث على مستوى تنظيم التعبير الجيني، مما يؤدي إلى تغيرات في «البروتيوم» (Proteome)، الذي يُعرَف بالمجموعة الكاملة للبروتينات التي يتم التعبير عنها بواسطة الكائن الحي (25)، وتشمل تلك التغيرات إعادة التنظيم الهيكلي والأيضي (26).

الخاتمة

للقروش قدرة استثنائية على البقاء رغم معاصرتها لحوادث انقراض جماعية عديدة. لكن تمكنها من النجاة قديمًا لا يضمن إمكانية تغلبها على العقبات المناخية الحالية. خصوصًا مع ضعف تنوعها الجيني الذي يعد عاملًا أساسيًا في تكيفها مع الظروف البيئية المتغيرة. لكن بالنظر إلى تاريخها التطوري، أمكن تحديد بعض الآليات التي تحاول من خلالها التأقلم مع التغيرات المختلفة. تعتمد هذه الآليات بشكل أساسي على المرونة المظهرية التي تمكّنها من مواكبة التغيرات البيئية السريعة التي تفوق معدل الطفرات الجينية المطلوبة للتكيف. ورغم ذلك، تظل هناك فجوات معرفية كبيرة في فهم المرونة المظهرية لدى القروش وضرورياتها ومحدداتها وإمكانيتها، وفي سبيل ذلك قد تساعد التطورات التقنية في مجال الوراثة، مثل تقنية تحليل تسلسل الحمض النووي، على سبر تلك الأغوار.

المراجع

1. Whitenack LB, Kim SL, Sibert EC. 2022. Bridging the Gap Between Chondrichthyan Paleobiology and Biology. In: Biology of sharks and their relatives. Boca Raton: CRC Press. p. 1–29.
2. Normile D. 2017 Oct 23. The world’s first trees grew by splitting their guts. Science. doi:https://doi.org/10.1126/science.aar2986.
3. Switek B. 2012 Dec 5. Earliest known dino relative found. Nature. doi:https://doi.org/10.1038/nature.2012.11959.
4. Kriwet  J,  Witzmann  F,  Klug  S,  Heidtke  UHJ  (2008)  First  direct  evidence  of  a  vertebrate  three-level  trophic  chain  in  the  fossil record. Proc Biol Sci 275:181–186.
5. Guinot G, Condamine FL. 2023. Global impact and selectivity of the Cretaceous-Paleogene mass extinction among sharks, skates, and rays. Science. 379(6634):802–806.
6. National Geographic Society. 2023. Generalist and Specialist Species. educationnationalgeographicorg. https://education.nationalgeographic.org/resource/generalist-and-specialist-species/.
7. Guinot G, Adnet S, Cavin L, Cappetta H. 2013. Cretaceous stem chondrichthyans survived the end-Permian mass extinction. Nature Communications. 4(1).
8. Spiky-Headed Sharks Survived Mass Extinction, Surprising Scientists. 2013 Oct 29. Animals. https://www.nationalgeographic.com/animals/article/131029-ancient-shark-survived-mass-extinction-science.
9. Dubey A. 2023 Aug 4. Major Mass Extinctions | Britannica. www.britannica.com. https://www.britannica.com/list/major-mass-extinctions.
10. Dulvy NK, Pacoureau N, Rigby CL, Pollom RA, Jabado RW, Ebert DA, Finucci B, Pollock CM, Cheok J, Derrick DH, et al. 2021. Overfishing Drives over one-third of All Sharks and Rays toward a Global Extinction Crisis. Current Biology. 31(21):4773–4787.
11. Sherman CS, Simpfendorfer CA, Pacoureau N, Matsushiba JH, Yan HF, Walls RHL, Rigby CL, VanderWright WJ, Jabado RW, Pollom RA, et al. 2023. Half a century of rising extinction risk of coral reef sharks and rays. Nature Communications. 14(1):15.
12. Simpfendorfer CA, Heithaus MR, Heupel MR, M. Aaron MacNeil, Meekan MG, Harvey ES, C. Samantha Sherman, Currey-Randall LM, Goetze J, Kiszka JJ, et al. 2023. Widespread Diversity Deficits of Coral Reef Sharks and Rays. Science. 380(6650):1155–1160.
13. Hammerschlag N, McDonnell LH, Rider MJ, Street GM, Hazen EL, Natanson LJ, McCandless CT, Boudreau MR, Gallagher AJ, Pinsky ML, et al. 2022. Ocean warming alters the distributional range, migratory timing, and spatial protections of an apex predator, the tiger shark ( Galeocerdo cuvier ). Global Change Biology. 28(6).
14. Tanaka KR, Van Houtan KS, Mailander E, Dias BS, Galginaitis C, O’Sullivan J, Lowe CG, Jorgensen SJ. 2021. North Pacific warming shifts the juvenile range of a marine apex predator. Scientific Reports. 11(1):3373.
15. Frankham R, Ballou JD, Ralls K, Eldridge MDB, Dudash MR, Fenster CB, Lacy RC, Sunnucks P. 2017 Jul13. Loss of genetic diversity reduces ability to adapt. Academic.oup.com.
16. Nonić M, Šijačić-Nikolić M. 2019. Genetic Diversity: Sources, Threats, and Conservation. Encyclopedia of the UN Sustainable Development Goals.:1–15.
17. Pereyra S, Garcia G, Miller P, Oviedo S, Domingo A (2010) Low genetic diversity and population structure of the narrownose shark (Mustelus schmitti). Fish Res 106:468–473.
18. Andreotti S, von der Heyden S, Henriques R, Rutzen M, Meÿer M, Oosthuizen H, Matthee CA. 2015. New insights into the evolutionary history of white sharks, Carcharodon carcharias. Journal of Biogeography. 43(2):328–339.
19. Sendell-Price AT, Tulenko FJ, Pettersson M, Kang D, Montandon M, Winkler S, Kulb K, Naylor GP, Phillippy A, Fedrigo O, et al. 2023. Low mutation rate in epaulette sharks is consistent with a slow rate of evolution in sharks. Nature Communications. 14(1):6628.
20. Rummer, J. L., Bouyoucos, I. A., Wheeler, C. W., Santos, C., and Rosa, R. (2022). “Climate change and sharks,” in Biology of sharks and their relatives, 3rd edition (Boca Raton, FL: CRC Press), 767–793.
21. Hasenei A, Donelson JM, Ravasi T and Rummer JL (2023) Sharks and their relatives: can their past help predict their future? Front. Mar. Sci. 10:1268532.
22. Hasenei A, Donelson JM, Ravasi T and Rummer JL (2023) Sharks and their relatives: can their past help predict their future? Front. Mar. Sci. 10:1268532.
23. Luzete, J., Oliveira, I.F., Ferreira, L.A., Klaczko, J. (2021). Phenotypic Plasticity. In: Vonk, J., Shackelford, T. (eds) Encyclopedia of Animal Cognition and Behavior. Springer, Cham.
24. Thums, M., Meekan, M., Stevens, J., Wilson, S., and Polovina, J. (2013). Evidence for behavioural thermoregulation by the world’s largest fish. J. R. Soc. Interface 10, 20120477.
25. proteome | Learn Science at Scitable. 2014. Naturecom. https://www.nature.com/scitable/definition/proteome-297/.
26. Dowd, W. W., Renshaw, G. M., Cech, J. J., and Kültz, D. (2010). Compensatory proteome adjustments imply tissue-specific structural and metabolic reorganization following episodic hypoxia or anoxia in the epaulette shark (Hemiscyllium ocellatum). Physiol. Genomics 42 (1), 93–114.
27. Epaulette Shark, Hemiscyllium ocellatum (Bonnaterre, 1788). The Australian Museum. https://australian.museum/learn/animals/fishes/epaulette-shark-hemiscyllium-ocellatum/.

اظهر المزيد

فاطمة الزهراء عبد المجيد

أهتم بقضايا المناخ والبيئة وتأثيراتهما على الكائنات الحية، وكيفية استجابة الكائنات لتلك التأثيرات وتكيفها على المستوى الجزيئي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى