الروبوتات الحيوية: نظرة نحو المستقبل
هل يمكن أن نعيش في عصر «روبوتات روسوم العالمية»؟
في عشرينيات القرن الماضي قدم الأخوان من أصل تشيكي «كارل وجوزيف تشابيك» (Karel and Joseph Čapek) مسرحية بعنوان (R.U.R) وهي اختصار لـ (Rossumovi Univerzální Roboti – Rossum’s Universal Robots) أو بالعربية «روبوتات روسوم العالمية».
تحكي تلك المسرحية عن مصنع مخصص لصنع أفراد عاملين يشبهون البشر في الشكل والتكوين. فنجد أن أبطال القصة، القائمين على المصنع، تنصبُّ جهودهم على تخليق حياة اصطناعية كيميائية الأساس والمنشأ لتصنيع أفراد عاملين يساعدون البشر في مهامهم اليومية، ويبدأ الأبطال بالفعل في إنتاج دماء، وجلود، وعضلات، وهياكل اصطناعية من أساس كيميائي حيوي لإنتاج هؤلاء الأفراد.
بعد النجاح العظيم والرواج الواسع للمسرحية على مستوى دولة التشيك، تمت ترجمتها إلى عديد من اللغات، وكان من بينها اللغة الإنجليزية التي أدخلت المسرحية كلمة جديدة عليها؛ ألا وهي كلمة «روبوت» (Robot) المشتقة من الكلمة التشيكية (Robota) والتي تعني (Forced Labors) أو «الأفراد المسخَّرين للعمل»، وبالتالي لا يمكن أن نطلق على الأفراد الذين تم إنتاجهم في (مصنع روسوم) باللغة العربية لفظ «إنسان آلي» لأن ذلك المصطلح سيتنافى مع وجهة نظر الأخوان «تشابيك» عن معنى كلمة «روبوت»؛ لذا سنطلق عليهم بالعربية المحرَّفة «روبوتات تشابيك» خلال سطور هذا المقال.
كلمة «الإنسان الآلي» تتنافى مع وجهة نظر الأخوين «تشابيك» في المسرحية؛ لأن الروبوت في المسرحية عبارة عن جسم له حياة اصطناعية كيميائية المنشأ مثل الحياة الطبيعية، بالإضافة إلى أنه يتشابه مع الإنسان في الشكل؛ فهو ليس مصنوعًا من معدن أو موصلات وأسلاك، إنما حاله كحال الإنسان؛ يتكون من عضلات ودماء وهيكل، كما أن لديه وجهًا وعينين وساقين ويدين وأعضاء. هذا بالإضافة إلى أن منهم ذكورًا (Robot) وإناثًا (Robotess).ويُلاحَظ خلال أحداث المسرحية أنه من كثرة تشابه «روبوتات تشابيك» مع الإنسان، أصبح من الصعب تمييزها عن البشر العاديين إلا بالأفكار، فالروبوتات في المسرحية لا تملك فكرًا أصليًا مستقلًا، فما هي إلا أداة مسخَّرة منفِّذة للأوامر.
مع دخول كلمة (Robot) على اللغة الإنجليزية، بدا أنها تُستخدَم وتُطلَق على أي شيء مسخَّر يقوم بعمل البشر. ومن أفضل من الآلة في استبدال البشر والقيام بأعمالهم -خاصة المتكرر منها-! فأصبحت الكلمة دارجة وتطلق على الماكينات والآلات ذات المهام التكرارية التلقائية الأوتوماتيكية، مما دفع «كارل تشابيك» إلى الاحتجاج على استخدام كلمة روبوت بهذه الطريقة؛ فاستخدامها بهذا الشكل يتنافى مع رؤية «روبوتات تشابيك» التي كان أساسها في المسرحية أجسامًا لها حياة حيوية كيميائية المنشأ من صنع البشر، ويمكن تسخيرها وتجنيدها للقيام بأعمال معينة.
ومثلما لعب أدب الخيال العلمي دوره عن طريق مسرحية (R.U.R) في إدخال كلمة (Robot) إلى المعجم الإنجليزي، لعب أدب الخيال العلمي أيضا دورًا كبيرًا في تصدير الصورة النمطية التي تطرأ إلى أذهاننا الآن عند ذكر كلمة روبوت ، وذلك عن طريق مجموعة قصصية صدرت في خمسينيات القرن الماضي تحت عنوان «أنا .. روبوت» (I, Robot) للكاتب الأمريكي «إسحاق عظيموف» (Issac Asimov) التي ذكر فيها أن الروبوتات لديها ما يُعرَف بالـ (Positronic Brain) أو بالعربية «الدماغ البوزيتروني»، وهو دماغ صممه الكاتب من خياله ليكون بداخل كل روبوت، ويتكون من سبيكة من عنصري الإيريديوم والبلاتينيوم، ويكون هذا الدماغ بمثابة وحدة المعالجة المركزية(CPU) للروبوت التي تحدث فيها جميع العمليات الخاصة بالوعي والذاكرة والمعالجة العامة للمواقف من خلال (Software) أي «برامج» تم تنزيلها، وتُتخَذ القرارات على أساسها.
يُستشَف من «روبوتات عظيموف» كيف حدثت طفرة في تعريف كلمة (Robot) بعد أقل من ثلاثين عامًا على إدخال الكلمة إلى معجم اللغة الإنجليزية، إذ نرى أنها بدأت تُستخدَم لتعبر عن كيانات ذات معالج مركزي مصنوع من سبيكة معدنية بها برامج تحركها، فأصبحت أقرب إلى الآلات والحواسيب أكثر منها إلى البشر، وهنا يمكننا أن نطلق على «روبوتات عظيموف» مصطلح «الإنسان الآلي» بالعربية بارتياح، على عكس «روبوتات تشابيك» التي كانت مصنوعة من خلايا وأعضاء مصنعة وذات أساس كيميائي حيوي أقرب إلى حال البشر منه إلى الآلة.
مع تسارع التطور التكنولوجي في القرن الحالي نلاحظ أن «روبوتات عظيموف» جاءتنا من الأدب وبُعِثَت في واقعنا وأصبحت جزءًا لا يتجزأ من حياتنا اليومية، فبداية من أبسط الأعمال اليومية الشخصية وصولًا إلى أعقد العمليات في المجالات المختلفة من الطب والصناعة والزراعة وغيرها، أصبح للآلات والماكينات دور مهم واضح لا يمكن الاستغناء عنه.
ولكن ماذا عن «روبوتات تشابيك»؟ هل سيخدم التطور في علمَي الكيمياء والأحياء في القرن الحالي مسرحية (R.U.R) ويبث في سطورها الروح هي أيضًا لتعيش في عالمنا الحقيقي؟ هل يمكن أن يُصنَع من خلايا وأنسجة حية كيانٌ يفتقر إلى التفكير والإرادة وينصاع فقط إلى الأوامر قائمًا بمهام يصعب علينا القيام بها؟
فجر الروبوتات الحيوية:
بالطبع في وقتنا الحالي سيكون من الصعب جدًا تحقيق الرؤية الكاملة للمسرحية، فلم يسبق وأن تم تصنيع خلية أو نسيج كامل من الصفر حتى يُصنَع منه كيان كامل مثل «روبوتات تشابيك»! ولكننا قد نكون خطونا بالفعل الخطوات الأولى في طريق صنع روبوتات من خلايا وأنسجة حية مقتربين من وجهة نظر الأخوين «تشابيك».
في عام 2020 نُشِرت ورقة بحثية في دورية « وقائع الأكاديمية الوطنية للعلوم» (PNAS) الشهيرة تحت عنوان «منهجية مرنة لتصميم كائنات حية قابلة للتعديل» (A Scalable Pipeline For Designing Reconfigurable Organisms)، وكان مفادها أن مجموعة من العلماء نجحوا -باستخدام «خوارزميات» (Algorithms) معينة- في تصميم (Biobots) أو «روبوتات حيوية» مكونة من مجموعة من الخلايا المعزولة فقط، ولا يوجد بها أي نوع من الإلكترونيات أو المعادن أو حتى الكهرباء؛ فحجر أساسها حيوي بحت، وأطلقوا عليها اسم « زينوبوت» (Xenobot) ويمكن أن نعتبرها مثل «روبوتات تشابيك»؛ لا يمكن إطلاق أي لقب يحوي كلمة (آلي) عليها، فيمكن ذكرها في المقال تحت مظلة أكبر تسمى الروبوتات الحيوية أو باسمها الأساسي؛ الزينوبوتات.
تتكون كلمة (Xeno/bots) من مقطعين أساسيين: المقطع الأول، وهو مقطع (Xeno) من الأصل اللاتيني (Xenos) الذي يعني غريب أو مختلف، ولكن في حال الزينوبوت تم ذكر ذلك المقطع (Xeno) نسبةً إلى «الضفدع الإفريقي ذي المخالب» (Xenopus laevis)؛ إذ يُعَد مصدر الخلايا المعزولة المستخدمة في تكوين الزينوبوتات، أما عن المقطع الثاني من الكلمة (Bot) فهو مشتق من كلمة (Robot) ولكن بتعريفها الأصلي القديم من التشيكية؛ أي المُسخَّر أو العمال المُسخَّرين.
يتكون الزينوبوت من نوعين من الخلايا: أولهما خلايا «الأديم الظاهر» (Ectoderm) التي تلعب دور الدعامة في الزينوبوت، وتكون معزولة من خلايا جلد أجنة الضفدع الإفريقي ذي المخالب، أما النوع الثاني فهي «الخلايا العضلية القلبية النابضة» (Contractile Cardiomyocyte) التي تلعب دور المحرك نظرًا لقدرتها على الانقباض والانبساط، وتكون معزولة من أجنة الضفدع الإفريقي ذي المخالب في مرحلة «الأريمة»(Blastula) . بعد عزل الخلايا، تُستخدَم خوارزمية لتصميم الشكل النهائي للزينوبوت موضحةً التوزيع الدقيق لنوعي الخلايا المستخدمَيْن حتى يناسب الوظيفة المرادة، كما هو موضح بالشكل رقم (1) والفيديو المرفق.
التطبيقات المبدئية للزينوبوتات:
تتعدد التطبيقات والمجالات التي يمكن أن تُستخدَم فيها الزينوبوتات، فيمكن استخدامها في المجال الطبي كناقلات للأدوية بحيث تكون موجهة للخلايا المصابة مباشرةً، ويمكن أيضًا استخدامها في التخلص من المواد غير المرغوب بها داخل الجسم، على سبيل المثال: الدهون غير المترسبة والجلطات في الأوعية الدموية، بالإضافة إلى التخلص من المواد غير المرغوب فيها في حالات التهاب المفاصل، كما أن لها تطبيقات كثيرة في المجال البيئي؛ إذ يمكن استخدام خاصية «السلوك الجمعي» (Collective Behavior) لديها في تنقية المجاري المائية من السموم الدقيقة، ويمكن استخدامها كأجهزة استشعار بيولوجية، كما أن قدرتها على إصلاح نفسها تعطيها ميزة إضافية للتفوق على الآلات والماكينات في معظم البيئات المختلفة.
معضلات أخلاقية ومستقبل الروبوتات الحيوية:
منذ ابتكار العلماء للزينوبتات، وهم يتعاملون على أساس أن تلك الروبوتات ما هي إلا مجموعة من الخلايا التي يمكن تشكيلها والتحكم بها لأداء وظائف محددة، إلى أن حدثت المفاجأة غير المتوقعة وهي أن الزينوبوتات أصبحت قادرة على التكاثر، إذ لاحظ العلماء سلوكًا يأتي فيه فرد من أفراد الزينوبوتات، ويُكوِّن كومة من الخلايا، ثم يأتي فرد آخر ويساهم بجزء من خلاياه في نفس الكومة، فتتكون لدينا كومة جديدة من الخلايا تُكوِّن زينوبوت جديد نتيجة لإسهام خلايا فردين (أبوين).
أثار هذا السلوك بعض الأسئلة في نفوس العلماء، إذ أصبحوا في حيرة من أمرهم؛ هل يمكن الآن اعتبار الزينوبوت كائنًا حيًا؟ للإجابة على هذا السؤال يجب أن نسأل سؤالًا آخر: ما تعريف الحياة في الأساس؟ وهل لأن الكيان بسيط يمكن أن نحكم عليه فقط بأنه مجموعة من الخلايا التي يمكننا التحكم بها، في حين أننا أنفسنا عبارة عن مجموعة من الخلايا التي تتعاون مع بعضها بعضًا ليس إلا! ولنفرض افتراضًا آخر؛ لنفرض أننا وصلنا لمرحلة من التطور نكون فيها قادرين على تصنيع «روبوتات تشابيك»، هل سيتم التعامل معها على أنها كائنات حية أم كيانات مصنوعة ليس لديها من الحقوق شيء؛ فقط تلاحقها الواجبات؟
أثق بأننا سنصل إلى درجة من التطور تؤهلنا لنعيش في عصر به مصنع روبوتات روسوم العالمية لتكوين كيانات معقدة مبنية على أساس حيوي، ولكن الأهم من ذلك أن نفكر في العواقب، وعلى أي أساس ستجري معاملة تلك الكيانات، هل ستُعامَل بصفتها كيانات أم كائنات؟
المصادر:
Christoforou, E.G., Müller, A. (2017). Robot and Robotics: The Origin and Beyond. In: Rodić, A., Borangiu, T. (eds) Advances in Robot Design and Intelligent Control. RAAD 2016. Advances in Intelligent Systems and Computing, vol 540. Springer, Cham. https://doi.org/10.1007/978-3-319-49058-8_67.
Pilný, O. (2021). The Brothers Čapek at the Gate: R.U.R. and The Insect Play. In: Pilný, O., van den Beuken, R., Walsh, I.R. (eds) Cultural Convergence. Palgrave Macmillan, Cham. https://doi.org/10.1007/978-3-030-57562-5_6.
Moravec, Hans Peter. “robot”. Encyclopedia Britannica, 23 Oct. 2024, https://www.britannica.com/technology/robot-technology. Accessed 26 November 2024.
Asimov, I. (2016). Robot Dreams. In Science Fiction and Philosophy, S. Schneider (Ed.). https://doi.org/10.1002/9781118922590.ch12.
https://en.m.wikipedia.org/wiki/Positronic_brain.
S. Kriegman, D. Blackiston, M. Levin, J. Bongard, A scalable pipeline for designing reconfigurable organisms, Proc. Natl. Acad. Sci. U.S.A.117 (4) 1853-1859,https://doi.org/10.1073/pnas.1910837117 (2020).
https://www.dictionary.com/browse/xeno.
Levin M, Bongard J, Lunshof JE. Applications and ethics of computer-designed organisms. Nat Rev Mol Cell Biol. 2020 Nov;21(11):655-656. doi: 10.1038/s41580-020-00284-z. PMID: 32782340.
Douglas Blackiston et al.A cellular platform for the development of synthetic living machines.Sci. Robot.6,eabf1571(2021).DOI:10.1126/scirobotics.abf1571