كيف تدرك أدمغتنا الشجرة؟
قراءة نيورومعرفية لمراحل عملية الإدراك البشري
يحدث الإدراك في نهاية طريق طويل يبدأ من خارجِنا، من خلال «مثيرات البيئة» (Stimuli in the Environment) كالأشجار والمباني وتغريد العصافير والروائح الموجودة بالهواء، وينتهي بـ «الاستجابات السلوكية» (Behavioral Responses) لِمَا تمَّ استقبالُه والتصرُّف تجاهه.
وقد لخّص بعض العلماء هذه العملية في ست خطوات (May, 2007) هي: المثير البيئي، التَحَاس، المعالجة، الإدراك، التَّعَرُّف، الفعل، بينما عَدَّدَها البعضُ في سبع خطوات (Goldstein, 2017) هي: المثير البيئي، الاستثارة الماديّة الناتجة عن المثير، عمليات المستقبلات، المعالجة، الإدراك، التَّعَرُّف، الفعل.
وكما سيتضح لنا أثناء الشرح، فإنه لا تعارض بين كلا التقسيمين، ولكن تقسيم «جولدشتاين» ميّز بين المثير كجسم (مُكَوّن) حقيقي موجود في البيئة وبين الاستثارة (الطاقة) الصادرة عنه، في حين دمج تقسيم «ماي» الاثنين في خطوة واحدة.
ولكن قبل البدء في تناول خطوات العملية الإدراكية، لا بد من مراعاة أن الأشكال التي تعبر عن مراحل العملية الإدراكية هي نسخة مبسطة لما يحدث، وذلك للأسباب التالية:
1- إن كل مرحلة (خطوة) داخل المخطط يحدث بداخلها أيضًا العديد من العمليات، فعل سبيل المثال: «المعالجة العصبية» (Neural Processing) لا تتضمن فقط فهمنا للطريقة التي تنشط بها «النيورونات/ الخلايا العصبية» (Neurons) بل يتضمن أيضًا الكيفية التي تتواصل بها كل خليّة عصبيّة مع خلية أخرى عبر مناطق المخ المختلفة.
2- السبب الآخر لاعتبار هذه الأشكال مبسطة هو كون هذه الخطوات لا تتّضح عادة بنفس الترتيب الذي توضّحه الأشكال، على سبيل المثال: أوضحت العديد من الأبحاث أن الإدراك مثلًا (أنا أرى شيئًا ما I see something) والتعرّف عليه (هذه شجرة That’s tree)، ليس بالضرورة أن يحدث أحدهما ويليه الآخر، ولكن يمكن حدوثهما معًا في نفس الوقت أو حتى بترتيب منعكس.
لنتناول الآن مراحل عمليّة الإدراك بشيء من التفصيل؛ من خلال دراسة عملية إدراك بصري لـ «شجرة» باعتبارها مثير بصري.
الخطوة الأولى: مثيرات البيئة:
هناك العديد من المثيرات داخل أجسادنا منها علي سبيل المثال: الألم الداخلي (Internal Pain)، والمثيرات التي تمكننا من الإحساس بمواضع أجسامنا وأطرافنا، ولكننا هنا بصدد تناول المثيرات البيئية؛ وهي أي شيء يتواجد حولنا في البيئة الخارجية ويُحتَمَل أن ندركه أو نستقبله مثل الضوء والصوت والروائح وغيرها، ولنأخذ أحد هذه المثيرات وليكن مثلًا: رؤية شجرة (مثير بصري)، وهو ما اتُّفِق على تسميته باسم «المثير البعيد» (Distal Stimulus) ويجب أن نعلم أن إدراكنا للشجرة لا يعتمد علي دخولها إلى أعيننا، بل يعتمد على الضوء المنعكس من الشجرة ووصوله إلى «المستقبلات البصرية» (Visual Receptors).
الخطوة الثانية: انعكاس الضوء على العين أو سقوط الطاقة على المستقبلات:
انعكاس الضوء من الشجرة يمثل واحدًا من المبادئ المركزية في مجال الإدراك، والذي يُسمَّى «مبدأ التحويل» (Principle of Transformation) وينص ذلك المبدأ على أن «الاستجابات التي تنتج من المثيرات يتم تحويلها أو تغييرها بين المثير البعيد والإدراك»، وأول مراحل التحول تحدث في مثالنا هذا عندما يصطدم الضوء بالشجرة (Light hits the tree)، ثم ينعكس من الشجرة على عين الشخص، وطبيعة الضوء المنعكس تعتمد على خصائص الطاقة الضوئية التي تصطدم بالشجرة (مثال: هل هو ضوء شمس منتصف النهار، أم ضوء في يوم غائم، أم ضوء كشاف ليلي؟)، كما يعتمد على خصائص الشجرة (بِنْيَة الشجرة، شكلها، تَفَرُّق الضوء الذي ينعكس منها)، وخصائص الغلاف الجوي الذي سينتقل الضوء من خلاله (هل الهواء نقي، أم مُغبَّر، أم مُضبّب؟)، وعندما يدخل هذا الضوء المنعكس إلى العين يُحوّل أيضًا، حيث يُركّز الضوء بواسطة «النظام البصري للعين« (Eye’s Optical System) الذي يتكون من قرنية العين (Cornea) والتي تقع في مقدمة العين، والعدسة (Lens) التي تقع خلفها مباشرة، وغيرهما. وإذا كانت هذه المكونات تعمل بكفاءة فسوف تتكون صورة حادة (ثاقبة) (Sharp Image) للشجرة على مستقبلات شبكية العين (Retina)، وهي طبقة شبكية رقيقة للغاية تتكون من خلايا عصبية تغطي مؤخرة العين وتحتوي علي مستقبلات للرؤية، والصورة المتكونة على الشبكية هي «المثير الأدنى أو الأقرب» (Proximal Stimulus)، وإذا كانت المكونات البصرية للعين لا تعمل بكفاءة فإن المثير القريب أو الصورة التي تصل الشبكية تكون مشوشة (Blurred).
وحقيقة أن صورة الشجرة مُركّزة على الشبكية تُنتج مبدأ آخر للإدراك وهو «مبدأ التمثيل» (Principle of Representation) والذي ينص على أن «أي شيء يستقبله الإنسان لا يعتمد فقط على «التواصل أو التّماس المباشر» (Direct Contact) مع المثيرات والتي تنتُج على المستقبلات، وما يترتب على ذلك من نشاط في الجهاز العصبي».
إن التمييز بين المثيرات البعيدة (خطوة 1) والمثيرات القريبة (خطوة 2)، يُوضّح كلا النوعين من التحويل والتمثيل، حيث تحوّل المثير البعيد (الشجرة) إلى المثير القريب، ولكن التحول من الشجرة (كجسم مادي حقيقي) إلى صورة للشجرة على الشبكية هي فقط المرحلة الأولى من سلسلة من التحولات، والتحول التالي سيتضح من خلال المستقبلات في مؤخرة العين.
الخطوة الثالثة: عمليات المستقبلات (Receptors Processes):
المستقبلات الحسية (Sensory Receptors) هي خلايا متخصصة في الاستجابة للطاقة البيئية (Environmental Energy)، وهناك أنواع مختلفة من المستقبلات الحسية، كل نوع منها متخصص في الاستجابة لنوع محدد من الطاقة، فالمستقبلات البصرية تستجيب للضوء، والمستقبلات الصوتية (Auditory Receptors) تستجيب للتغيير في ضغط الهواء، والمستقبلات اللمسية (Touch Receptors) تستجيب للضغط الذي ينتقل عبر الجلد، والمستقبلات الشمية والتذوقية تستجيب للمواد الكيميائية التي تدخل الفم والأنف، وعندما تستقبل المستقبلات البصرية التي تقع في مؤخرة العين الضوء المنعكس من الشجرة فإنها تفعل شيئين:
1- تقوم بتحويل الطاقة البيئية (الضوئية) إلى طاقة كهربية:
2- تقوم بصياغة أو تشكيل الإدراك (They shape perception) بالطريقة التي تستجيب بها لمختلف المثيرات، حيث تقوم المستقبلات البصرية بتحويل الطاقة الضوئية إلى طاقة كهربية وذلك لأنها تحتوي علي مواد كيميائية حساسة للضوء (Light-Sensitive Chemical) تسمى «الصبغة الضوئية» (Visual Pigment)، والتي تتفاعل مع الضوء وعملية تحويل الطاقة من صورة ما (الضوئية مثلًا) إلي أخرى (الكهربية مثلًا)، وتسمى هذه العملية بـ «التحاس أو التنبيغ» (Transduction)، وعليه، فإن عملية التحاس يمكن تعريفها بأنها «العملية التي يتم فيها تحويل الطاقة الموجودة بالبيئة مثل الضوء أو الصوت وغيرهما، إلى صيغة معلوماتية بداخلنا مثل الإشارات الكهربية أو الكيميائية ليسهل على الدماغ التعامل معها».
ودمج المثير البيئي مع عملية التحويل هو المسؤول عن تكوين الإحساس، ويناظر ذلك في مجال التكنولوجيا ما يحدث عند الضغط على زر السحب في ماكينة ATM، حيث يتحول الضغط الناتج من إصبعك إلى طاقة كهربية، فينتج عن ذلك أن يقوم جهاز آخر داخل الماكينة يستخدم الطاقة الميكانيكية بإخراج الأموال خارج الماكينة.
وعملية التحاس بواسطة الأصباغ البصرية عملية مهمة للإدراك ولا بد منها، وبدونها لن تصل المعلومات المُستمدة من تمثيل الشجرة والمتكونة على الشبكية إلى الدماغ، وبالتبعية لن يحدث الإدراك. علاوة على ذلك، تصيغُ الأصباغ البصرية الإدراك بطريقتين هما:
1- القدرة على رؤية الضوء الخافت (Dim Light) والذي يتطلب وجود تركيزات مرتفعة من الأصباغ الحساسة للضوء في المستقبلات.
2- هناك أنواع متعددة من الأصباغ التي تستجيب للضوء بشكل جيد حسب طبيعة مكونات الطيف المرئي (Visible Spectrum)، فبعض الأصباغ تستجيب بشكل أفضل للضوء (الأزرق – الأخضر) وأصباغ أخرى تستجيب للضوء (الأصفر- الأحمر).
الخطوة الرابعة: المعالجة العصبية (Neural Processing):
بعد أن يحدث التحاس فإن الشجرة (المثير البصري) تُمثّل بواسطة إشارات كهربية عبر آلاف المستقبلات البصرية. ولكن ماذا يحدث لهذه الإشارات؟ تنتقل عبر شبكة هائلة التشابك من الخلايا العصبية (Vast Interconnected Network of Neurons) والتي تقوم بما يلي:
1- نقل الإشارات من المستقبلات عبر الشبكية إلى الدماغ، ثم بعد ذلك داخل الدماغ.
2- معالجة وتعديل هذه الإشارات أثناء عملية نقلها وهذه التغيرات تحدث بسبب التفاعلات (Interactions) بين الخلايا العصبية أثناء انتقال الإشارات من المستقبلات إلى الدماغ وبسبب هذه المعالجة فإن بعض الإشارات يتم إضعافها أو حتى منعها من المرور (الاستمرار)، في حين تتم تقوية (تضخيم) البعض الآخر حتى يصل إلى الدماغ بمزيد من القوة، وتستمر هذه العملية طالما تنتقل الإشارات إلى مختلف أماكن الدماغ، وعملية المعالجة العصبية تلك تحدث بشكل مشابه بين مختلف الحواس، أما الطاقة الصوتية (تغيُّر في ضغط الهواء) تتحول إلى إشارات كهربية داخل الأذن وتنتقل خارجها عبر العصب السمعي (Auditory Nerve) إلى المخ، وعندما تصل الإشارات الكهربية القادمة من كل حاسة إلى منطقة الاستقبال الأولية (Primary Receiving Area) الخاصة بكل حاسة في القشرة المخية (Cerebral Cortex)، والقشرة المخية هي طبقة رقيقة يصل سمكها إلى 2 مم تحتوي على وحدات لإنتاج الإدراكات بالإضافة إلى وظائف أخرى مثل اللغة والتذكر والتفكير. والمنطقة الأولية المسؤولة عن إدراك الرؤية تشغل معظم الفص القفوي (Occipital Lobe)، والمنطقة الخاصة بالسمع تقع في الفص الصدغي (Temporal Lobe)، والمنطقة المسؤولة عن إحساس الجلد واللمس ودرجة الحرارة والألم تقع في الفص الجداري (Parietal Lobe).
وخلال سلسلة من التحولات تحدث بين المستقبلات والدماغ وداخل الدماغ، فإن نمط الإشارات الكهربية داخل الدماغ يتغير مقارنة بالإشارات الكهربية التي غادرت المستقبلات. ومن الضروري ملاحظة أنه رغم تغير الإشارات، إلا أنها تظل تمثل الشجرة (المثير)، وفي الحقيقة فإن التغييرات التي تحدث للإشارات أثناء نقلها ومعالجتها ضرورية لتحديد الخطوة التالية من عملية الإدراك.
الخطوة الخامسة والسادسة والسابعة: الاستجابات السلوكية:
أخيرًا وبعد كل ما حدث من انعكاس وتركيز وتحاس وانتقال ومعالجة، فإننا نصل إلى مرحلة الاستجابات السلوكية، وهذه المرحلة من التحول ربما تكون الأكثر إعجازًا أو إبهارًا في كل المراحل وذلك لأن الإشارات الكهربية (خطوة 4) تتحول إلى خبرة شعورية (Conscious Experience) حيث يدرك الفرد الشجرة (خطوة 5) ويتعرف عليها (خطوة 6) ويمكننا التمييز بين الإدراك الذي هو وعي شعوري بالشجرة (Conscious awareness of the tree) وبين «التعرف» (Recognition) الذي هو وضع الشيء في فئته (Placing an object in a category) مثلًا (شجرة) وبعد ذلك يكسبه المعنى.
ويجب أن نعلم أن مرحلة المعالجة السالفة الذكر ومرحلتيّ الإدراك والتعرّف تتأثر بالمعرفة (Knowledge) أي ذاكرة الإنسان وخبراته وتوقعاته. على سبيل المثال: لو أنك لمست دبَّاسة (كابسة) أوراق (Stapler) بيدك وعيناك مغلقتان يمكن أن تتعرف عليها بسبب معرفتك المسبقة، أما إذا لم يسبق لك رؤيتها من قبل أو السماع عنها؛ فيمكن أن تدركها بشكل مختلف تمامًا كقطعة معدنية مُشكّلة بطريقة غريبة، وهذا أيضًا جزء من التعرّف وهو إعطاء معنى للإحساس كأن تعرف أن الدباسة تستخدم في تدبيس (تثبيت) مجموعة من الأوراق.
ومعظم المدركات تقود إلى الخطوة الأخيرة للعملية الإدراكية وهي الفعل (Action) أو فعل شيء ما بسبب المثير، وقد تتضمن أنشطة حركية. على سبيل المثال: قد يقرر الفرد التحرك ناحية الشجرة أو أن يقوم بنزهة خلوية أسفلها أو أن يتسلقها، وحتى إن لم يقرر التعامل المباشر مع الشجرة فإنه قد يقوم بفعل آخر كأن يحرك عيونه ورأسه للنظر إلى الأجزاء المختلفة من الشجرة.
المصادر:
-Carlson, L. A. (2010) Top-down and bottom-up processing. In E. B. Goldstein (Ed.), Encyclopedia of perception (Vol. 2, pp. 1011–1013). Thousand Oaks, CA: Sage.
-Donderi, D. C. (2006). Visual complexity: A review. Psychological Bulletin, 132, 73–97.
-Gibson, B.S., & Peterson, M.A. (1994). “Does orientation – independent object recognition precede orientation – dependent recognition? Evidence from a cueing paradigm”. Journal of Experimental Psychology: Human Perception and Performance, 20, 299-316.
-Gibson, J.J. (2005). “A theory of direct perception”. In, Alva & Thompson, E. (Eds). Vision and Mind (PP 77-89). Bradford Book, The MIT Press.
-Goldestin, E.B & Brockmole, J.R. (2017). “Sensation & Perception”. (6th ed), Cengage Learning, 20 Channel Center Street, Boston, MA 02210, USA.
-Gordon, I. E. (2004). Theories of visual perception (3rd ed.). Hove, UK: Psychology Press
-May, M. (2007). “Sensation and Perception”. Info Base Publishing, 132 West 31st Street. New York.