مداخل الإدراك لدى البشر
بقلم د. أحمد كمال عيد عيسى – باحث علمي مستقل حاصل على درجة الدكتوراة في علم النفس المعرفي
في حياتنا اليومية قد نحاول قراءة بعض الكلمات التي كتبها بعض الأشخاص فنجد صعوبة في قراءة حرف ما كُتب بشكل متعجّل أو بخط سيئ وغير واضح، وبعد فترة تأمل بسيطة نصل إلى قراءة الحرف بشكل صحيح ومن ثم الكلمة، ولكن ما السبب الذي دفعنا لقراءة الحرف والكلمة؟ باختصار تم التعرف على الحرف واستنتاجه بتوظيف الحروف المحيطة به وتكامل سياق الحروف مع بعضها أنتج الكلمة. إذًا، فالمعرفة السابقة التي نحتفظ بها في ذاكرتنا وتوقعاتنا كانت سببًا في إدراك الحروف والتعرف عليها بشكل صحيح. لكن هل يتحتم أن تكون المعالجة التي ينشأ عنها الإدراك دائمًا من داخلنا، أي من عقولنا ومعرفتنا وخبراتنا؟ أليس من الممكن أن تكون بمحفز خارجي وأن تكون خصائص المثيرات وصفاتها هي ما دفعنا لإدراكها؟ وبالمثل أليس من الممكن أن يكون الإدراك خليطًا من تعاون كلا النوعين؟
هذا ما سنتعرف عليه في الجزء التالي، الذي سنتناول فيه نوعين من المعالجة يحدثان أثناء عملية الإدراك وهما:
- المعالجة من الأسفل للأعلى ( Bottom – up Processing)
- المعالجة من الأعلى للأسفل (Top – up Processing)
أولًا: المعالجة من الأسفل للأعلى:
وهي معالجة تؤكد على أن خصائص «المثير» مهمة عند التعرف عليه، وبشكل خاص المثيرات الملموسة (Physical Stimuli) التي تتواجد في البيئة والتي يتم تسجيلها على المستقبلات الحسية، ثم تُمرّر هذه المعلومات إلى المستويات العليا الأكثر تعقيدًا في النظام الإدراكي.
وإليك مثال يوضح كيف تحدث المعالجة من الأسفل للأعلى: انظر بعيدًا عن كتابك وركز على شيء محدد قريب منك، ثم لاحظ الشكل والحجم واللون وخصائصه الفيزيائية (المادية) المهمة الأخرى. بمجرد أن يتم تسجيل هذه الخصائص على شبكية العين، تبدأ عملية التعرف عليه حيث تبدأ بمستوى الإدراك الأساسي السفلي، وتواصل طريقها حتى تصل إلى المناطق المعرفية الأكثر تعقيدًا في الدماغ خارج القشرة البصرية الأولية، وهكذا تساعدك عملية اندماج خصائص المستويات السفلية وتكاملها في التعرف على أشياء كاملة ومعقدة.
ويمكن توصيف الانتباه من الأسفل للأعلى فسيولوجيًا كما يلي:
عندما يحدث تحفيز للمستقبلات يؤدي ذلك إلى حدوث سلسلة من الأحداث تؤدي إلى انتقال الإشارات الكهربية من المستقبلات باتجاه الدماغ، فإدراك الشجرة أو تغريد الطيور يحدث بعد وصول الإشارات الكهربية التي تبدأ في المستقبلات إلى الدماغ. ويُحدد التأثير المبدئي لتلك الإشارات في القشرة المخية عبر تسجيل الإشارات الكهربية للخلايا العصبية المفردة، وفي القشرة المخية يوجد نوع من الخلايا العصبية التي تستجيب بشكل أفضل للأشكال البسيطة مثل الخطوط أو القضبان (العصي) ذات التوجهات المحددة، وتسمى باسم مستكشفات الخصائص (Feature Detectors) وذلك لأنها تستجيب لخصائص بسيطة. على سبيل المثال: يعتمد إدراكنا للشجرة مثلًا أو غيرها على النشاط خارج القشرة المخية البصرية الأولية، ولكن استجابة مستكشفات الخصائص تعتبر الخطوة الأولى فقط في الاستجابة الدماغية للأشياء. لذا، عندما ننظر لشيء ما كالشجرة فإن الخلايا العصبية للقشرة المخية البصرية التي تستجيب لتوجهات محددة تستثير خصائص أخرى للشجرة مثل جذعها وفروعها كما يوضح الشكل التالي:
شكل (1) صورة لمثير يوضح الانتباه من الأسفل للأعلى (Goldestin, 2011, 50)
فكرة أن الخلايا العصبية تُنشط خصائص منفردة للشجرة تفترض أن إدراكنا للشجرة ينتج من اتحاد (دمج) للمعلومات المستمدة من تنشيط العديد من مستكشفات الخصائص.
أما المدخل السلوكي لهذا المبدأ هو أن الإدراك يمكن أن ينتج من اندماج بين الخصائص المفردة وقد افترض ذلك «إرفينج بيدرمان» ((Irving Biederman, 1987 عبر نظريته المسماة «نظرية التعرف عبر المكونات» (Recognition by Components) التي تفترض أن إدراك الأشياء يتم بإدراك خصائصها الأساسية المسماة «جيونات» (Geons) أي مفرداتها الهندسية.
ثانيًا: المعالجة من الأعلى للأسفل (توظيف المعرفة):
تعتمد المعالجة من الأعلى للأسفل على معرفة الفرد المسبقة وتوقعاته، ووفقًا لهذا المبدأ فإن الإدراك يتم توجيهه بواسطة عمليات معرفية عليا وبواسطة المعرفة الحالية والتوقعات السابقة التي يمكنها أن تؤثر على الإدراك، فهذه المعرفة أو خبراتك السابقة تمكّنك من توقع وجود أشياء معينة في مواقع محددة. فكّر ما الذي يحدث إذا أغلقت عينيك ثم فتحتها فجأة وأعدت إغلاقها ثانية بسرعة شديدة، كم شيئًا استطعت إدراكه من بين الأشياء المحيطة بك خلال هذا الزمن القصير للغاية؟ ما ساعدك على ذلك هو التجهيز من الأعلى للأسفل الذي يسّر لك ذلك التعرف السريع، وقد استفاد هذا النوع من التجهيز من توقعاتك وذاكرتك عن الأشياء القريبة والمحيطة بك، وبالطبع يحدث اندماج بين التجهيز العلوي السفلي مع التجهيز السفلي العلوي، ونتيجةً لذلك يحدث التعرف السريع على الأشياء.
للتجهيز من الأعلى للأسفل دور مهم في التعرف على الأشياء الغامضة كما يوضح الشكل التالي:
شكل (2) دور السياق والمعرفة السابقة في التجهيز من الأعلى للأسفل
يُظهر الشكل حروفًا غامضة يمكن أن يُنظر إليها أحيانًا على أنها حرف H وأحيانًا أخرى على أنها حرف A، وفي هذا الشكل فإن الكلمة الموجودة في بداية الجملة دفعتك معرفتك السابقة بها لقراءتها على أنها كلمة «The»، أي تعرفت على الحرف الثاني على أنه حرف H، وفي نفس الوقت ساعدتك الكلمتين الثانية والثالثة «Man» و«Ran» في التعرف على الحرف الغامض على أنه A لأن السياق مختلف.
للتوقعات دور مهم في حدوث الإدراك وفقًا لمبدأ المعالجة من الأعلى للأسفل. على سبيل المثال، إذا نظرت إلى العمارات الموجودة في خلفية مشهد مدينة ما ستدرك أنها كبيرة الحجم، ويرجع ذلك إلى أنك تعلم أن تلك العمارات بعيدة للغاية، أي لا بد أنها أكبر مما تبدو عليه. قد تعمل التوقعات أحيانًا حتى في الجانب المعاكس (السلبي)، حيث يتوقع بعض الناس وجود شيء ما في مكان محدد، وقد يعتقدون برؤيته رغم عدم وجوده في الواقع. قد يبحث مجموعة من الناس عن شخص ما في مكان محدد ويعتقدون أنهم رأوه حتى وإن لم يكن موجودًا في الواقع، أو قد يرون شخصًا آخر يشبهه فيعتقدون أنه هو.
يرى «غروم» (Groome, 1999) أن المعالجة من الأعلى للأسفل تحدث عندما يكون المثير قويًا، ويتم تسجيله لزمن قصير للغاية يصل إلى أجزاء من الثانية، كما أن المعالجة من الأعلى للأسفل تكون قوية وواضحة عندما يكون المثير غير مكتمل أو غامض.
أما عن الكيفية الفسيولوجية لحدوثه فيذكر «كيرستن وباحثون آخرون» (Kersten et al, 2004) مثالًا لحدوثه في مجال الإبصار، حيث يفترضون وجود تراكيب خاصة على طول المسار بين الشبكية والقشرة البصرية، وتلعب هذه المكونات دورًا في الاحتفاظ ببعض المعلومات حول الاحتمالية النسبية لرؤية مختلف المثيرات البصرية في سياقات معينة.
يجب الانتباه أنه عادة ما يتم عرض اتجاهي المعالجة وكأنهما متعارضان، لكنهما إلى حد ما يتعاملان مع جوانب مختلفة لنفس الظاهرة، لذا فإن تقديم نظرية كاملة للإدراك يجب أن يتضمن كلا النوعين من الإدراك. ويرى علماء النفس المعرفيين أن كلا النوعين من التجهيز ضروري لتفسير تعقيدات التعرف على الأشياء، حيث تدرك مثلًا أنك تقف أمام إحدى أشجار البرتقال بسبب نوعين من المعالجة التزامنية:
1- تعمل المعالجة من الأسفل للأعلى على إدراك خصائص المثير من حيث وجود جذع وفروع وأوراق وما إلى ذلك.
2- تساعدك المعرفة السابقة لديك والمخزنة في ذاكرتك في التعرف على نوعية وطبيعة أوراق شجرة البرتقال وطريقة خروجها من البراعم وطبيعة الأشواك على فروع الشجرة، وذلك للتمييز بينها وبين بعض الأشجار الشبيهة بها كأشجار الليمون مثلًا. هنا يبرز دور المعالجة من الأعلى للأسفل.
المصادر:
1-Carlson, L. A. (2010) Top-down and bottom-up processing. In E. B. Goldstein (Ed.), Encyclopedia of perception (Vol. 2, pp. 1011–1013). Thousand Oaks, CA: Sage.
2-Friedman, A., Spetch, M. L., & Ferrey, A. (2005). Recognition by humans and pigeons of novel views of 3-D objects and their photographs. Journal of Experimental Psychology: General, 134, 149–162.
3-Goldestin, E.B & Brockmole, J.R. (2017). “Sensation & Perception”. (6th ed), Cengage Learning, 20 Channel Center Street, Boston, MA 02210, USA.
4-Goldestin, E.B (2011). Cognitive Psychology: Connecting mind, research and everyday experience. (3rd ed), Wadworth Cengage Learning, Belmont, USA.
5-Gordon, I. E. (2004). Theories of visual perception (3rd ed.). Hove, UK: Psychology Press.
6-Kersten, D., Mamassian, P., & Yuille, A. (2004). Object perception as Bayesian inference. Annual Review of Psychology, 55, 271–304.
8-Sternberg, R.J., Sternberg, K., Mio, J. (2012). “Cognitive Psychology”. (6th ed). Wadsworth Cenage Learning, Belmont, USA.
9-Toppino, T. C., & Long, G. M. (2005). Top-down and bottom-up processes in the perception of reversible figures: Toward a hybrid model. In N. Ohta, C. M. MacLeod, & B. Uttl (Eds.), Dynamic cognitive processes (pp. 37–58). Tokyo: Springer-Verlag