المحار: علم ما وراء الأصداف

بقلم: عبير غانم

عندما تفكر في المحار، فإن أول ما يتبادر إلى ذهنك هو -على الأرجح- مذاقه اللذيذ وشهرته كطعام فاخر في أنحاء كثيرة في العالم. لكن هل تعلم أنَّ المحار من المخلوقات الرائعة ذات البيولوجيا المعقدة التي تجعله جزءًا مهمًا للعديد من النظم البيئية؟ في هذا المقال، سوف نلقي نظرة فاحصة على البيولوجيا المذهلة للمحار، لنستكشف علم التشريح والتكاثر وأهميته البيئية.

«علم الرخويات» (Malacology)

هو الدراسة العلمية للرخويات، وهي مجموعة متنوعة من الحيوانات اللافقارية التي تمثل ثاني أكبر مجموعة في المملكة الحيوانية من حيث تنوعها البيولوجي؛ فهي تشمل نحو مئة ألف نوع معروف، مثل: القواقع، والمحار، والحبار، والأخطبوط. وتتشعب من علم الرخويات بعض الأفرع، أحدها هو «علم الأصداف» (Conchology).

ولا يخفى على أحد أن «أرسطو» هو أول رجلِ عِلْمٍ دَرَس الرخويات بجدية، حيث صنَّف الكائنات الحية إلى فقاريات ولافقاريات، وقدَّم ملاحظاته حول الشكل الخارجي والتشريح والتكاثر والبيئة وسلوك العديد من الحيوانات الرخوة -التي صُنِّفَت اليوم ضمن شعبة الرخويات- في كتابه الشهير «تاريخ الحيوانات» (Historia Animalium).

وقد توالت دراسات علم الحيوان، بما في ذلك علم الأصداف، حيث قدَّم العديد من علماء المحاريات في القرنين الماضيين مساهمات كبيرة قبل صياغة المصطلح المحدد رسميًا لعلم الرخويات؛ بداية من العالم السويدي «كارولوس لينيوس» (Carolus Linnaeus) ونظامه الخاص بالتسمية الثنائية، ووصولًا إلى العالم الفرنسي «جورج كوفييه» (Georges Cuvier) الذي أحدَث مع زملائه ثورة في علم اللافقاريات النظامي من خلال دراساته الرائدة في علم التشريح المقارن، مما أكسبه لقب “أبي علم الرخويات”. وكانت ولادة علم الرخويات بمثابة تحوُّل تدريجي في التفكير في علم الحيوان على مدى ثلاثة عقود على الأقل، بالتوازي مع التحوُّل الأكبر من التاريخ الطبيعي إلى علم الأحياء الحديث. وعلى الرغم من هذا التحول، يظلُّ علم المحار ضروريًا لعلماء الحفريات وأمناء المتاحف وجامعي الأصداف؛ فهو مجال رائع ومتعدد التخصصات يوفر العديد من الفرص للبحث والاكتشاف

التشريح الفسيولوجي للمحار

The anatomy of an oyster. Image courtesy of East Hampton Town Shellfish Hatchery

المحار مخلوق بحري يتبع «فصيلة الرخويات» (Phylum Mollusca)، ويتميز بجسمه المدبب والمنحني الذي يتكون من جزأين رئيسَيْن: الصَّدَفة، والجسم اللحمي.

  • الصَّدَفة: تتكون من طبقتين من كربونات الكالسيوم؛ طبقة خارجية صلبة تحمي جسم المحار من العوامل الخارجية، وطبقة داخلية ملساء تُمكِّنه من الانزلاق داخل الرمال.
  • الجسم اللحمي: يحتوي على الأعضاء الداخلية، وهو مغطى بطبقة من الأنسجة الليِّنة والعضلات التي تُستَخدَم لفتح وإغلاق الصدفة. ويتميز بوجود القدم التي تساعد المحار في الحركة والتنقل على الأسطح الصلبة. ويحتوي الجسم اللحمي على عدة أعضاء منها:
  • «الوشاح» أو «الرداء» (Mantle): هو النسيج الرخو الذي يبطن الصمامات من الداخل ويُكوِّن جسم المحار. وهو مسؤول عن إفراز المادة التي تشكل الغلاف، كما أنه مسؤول أيضًا عن تصفية ومعالجة العناصر الغذائية من المياه المحيطة.
  •  «الخياشيم» (Gills): يتغذى المحار عن طريق «الترشيح» (Filtration)، مما يعني أنه يستخرج العناصر الغذائية من المياه المحيطة من خلال الهياكل الريشية التي تُرَشِّح وتحبس جزيئات الطعام وتنقلها إلى الجهاز الهضمي.  كما تتبادل الخياشيمُ الأكسجين وثاني أكسيد الكربون مع المياه المحيطة أثناء عملية التنفس.
  • الجهاز الهضمي: يتكون من الفم والمعدة والأمعاء، ويعمل الجهاز الهضمي على تفكيك جزيئات الطعام وامتصاص العناصر الغذائية.
  • الجهاز العصبي: للمحار جهاز عصبي بسيط مع شبكة من العُقد المنتشرة في جميع أنحاء الجسم.

التكاثر ودورة الحياة

الجهاز التناسليّ للمحار معقَّد؛ حيث يمكنه التكاثر عن طريق الاتصال الجنسي واللاجنسي.

  • التكاثر الجنسي: عادة ما يكون المحار «ثنائي الجنس» (Dioecious)، مما يعني أنه قد يكون ذكرًا أو أنثى. إلّا أنه توجد أيضًا بعض الأنواع «الخُنثى» (Hermaphrodites) التي تحتوي على أعضاء تناسلية من الذكور والإناث معًا. وخلال موسم التبويض الذي يحدث في فصلي الربيع والصيف، تُطلِق الذكورُ الحيوانات المنوية في الماء، بينما تُطلِق الإناثُ البويضات. ثم تتحد البويضات والحيوانات المنوية لتكوين بويضة مُخَصَّبَة تتطور إلى «يرقة حرةِ السباحة» (Veliger).
  • التكاثر اللاجنسي: يحدث من خلال عملية تُسمَّى «التبرعُم» (Budding) حيث يُنتِج المحار برعمًا صغيرًا على جسمه، ثم يتطور إلى محار جديد بمجرد تكوين اليرقة، التي تقضي نحو أسبوعين إلى ثلاثة أسابيع هائمةً في الماء تتغذى على العوالق، لتستقر بعدها -أثناء النمو- على سطح صلب مثل صخرة أو صدفة محار آخر، وبعد ذلك تخضع اليرقة لسلسلة من التغيرات تجعلها شبيهة بالمحار الصغير.

وتنمو اليرقات بعد ذلك لتصبح محارًا بالغًا، وقد يستغرق ذلك من سنة إلى خمس سنوات حسب النوع والظروف البيئية. وخلال هذا الوقت، يتغذى المحار عن طريق تصفية المياه من خلال خياشيمه، ويستمر في النمو والنضوج. وبمجرد أن يصل المحار إلى مرحلة النضج، فإنه يتكاثر ويبدأ الدورة مرة أخرى.

الأهمية البيئية للمحار

يُعتبَر المحار أحد الكائنات الحية البحرية المهمة من الناحية البيئية، حيث يلعب دورًا كبيرًا في تنظيم التوازن البيئي والحفاظ على صحة البيئة البحرية. وتتمثل أهميته البيئية في ما يلي:

تصفية الماء: يقوم المحار بتصفية الماء وإزالة الجسيمات العالقة بجانب قدرته أيضًا على إزالة العناصر الغذائية الزائدة من الماء، مثل النيتروجين والفوسفور، والتي يمكن أن تسهم في تكاثر الطحالب الضارة في المناطق الساحلية، وبذلك يعمل على تحسين جودة المياه البحرية.

توازن البيئة البحرية: يمتص المحار المعادن الثقيلة والملوثات العضوية المتطايرة من البيئة البحرية، مما يعمل على تنظيم توازن البيئة والحفاظ على صحة الكائنات البحرية.

تحسين النظام البيئي: يُعدُّ المحار مصدرًا مهمًا للغذاء لعدد كبير من الحيوانات البحرية، حيث توفر شعاب المحار موطنًا لمجموعة متنوعة من الكائنات البحرية، بما في ذلك الأسماك، وسرطان البحر، والروبيان. ويساهم بذلك في تحسين النظام البيئي البحري.

الأنشطة الاقتصادية: لا تكمن أهمية المحار في كونه مصدرَ غذاءٍ للبشر فقط، ولكنه أيضًا مصدر مهم للمواد الخام، حيث يُستخدَم في صناعة اللؤلؤ والمجوهرات والعديد من المنتجات الأخرى، مما يعمل على تحفيز النشاطات الاقتصادية في المناطق الساحلية.

التحديات التي تواجه مستعمرات المحار

يواجه المحار العديد من التحديات على الرغم من أهميته البيئية، بما في ذلك فقدان الموائل والصيد الجائر والتلوث، حيث دُمِّرَت الشعاب المرجانية وأُتلِفَت نتيجة للتنمية والتجريف والأنشطة البشرية الأخرى. كما أدى الصيد الجائر إلى استنفاد أعداد المحار في العديد من المناطق، مما أدى إلى انخفاض محاصيل المحار التجارية والبرية. بالإضافة إلى التلوث، خاصة الجريان السطحي لمياه الصرف الزراعي والصحي، الذي يمكن أن يؤثر سلبًا على المحار عن طريق زيادة الملوثات الضارة التي يمكن أن تؤدي إلى تفشي الأمراض وانخفاض معدلات البقاء للكائنات البحرية.

لذا يجب على المجتمع الدولي العمل معًا للحفاظ على هذا الكائن الحيوي وضمان استدامته للأجيال القادمة، لأنَّ المحار أكثر من مجرد طبق لذيذ. وبهذه الخاتمة، نُنهي رحلتنا الممتعة في عالم المحار، ولكن على وعد بجولة جديدة في المقال القادم، لنستكشف فيه عالم اللؤلؤ؛ ذلك الكنز الجميل المَخفِيَّ بداخل المحار. ونأمل أن تجدوا فيه إجابات شاملة على تساؤلاتكم، ومعلومات تثري معرفتكم.

المصادر :

https://zse.pensoft.net/article/1087

https://www.shapeoflife.org/sites/default/files/SoL-Oyster-lesson-High-School_0.pdf

https://www.vims.edu/public/msd/news/oysters-how-much-do-we-know.php

https://toyesi.com.au/heat-pump-innovations/aquaculture-projects/oyster-life-cycle

https://extension.umd.edu/resource/oyster-hatchery-0

https://www.nswoysters.com.au/uploads/5/7/9/9/57997149/oysterbiology_factsheets.pdf

http://nap.nationalacademies.org/10796

اظهر المزيد

عبير عثمان غانم

تخرّجت عام 2022 في كلية علوم الثروه السمكية، جامعة كفرالشيخ، تخصص التصنيع والبيوتكنولوجيا البحرية. متطوّعة في فريق الكتابة العلمية بمكتبة مؤسسة علماء مصر، وتطوعت سابقًا في مجال صناعة المحتوى العلمي وتبسيطه لغير المتخصصين من المتحدثين بالعربية، وتحديدًا في مجال علوم البحار والوعي البيئي. شغوفة بالقراءة والصحافة العلمية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى