هل يزداد الفقراء فقرًا؟
نظرة على اقتصاد العالم
قبل الثورة الصناعية، كان النظام الاقتصادي السائد هو النظام الزراعي الإقطاعي، وكانت الأراضي الزراعية مُلكًا لعدد قليل من النبلاء والملوك، بينما يعمل الفلاحون والعامة في تلك الأراضي مقابل أجر زهيد من المحصول والمأوى. تغيَّر العالم بدخول الآلة، وبدا أن الإنسان امتلك مفاتح الأرض وثرواتها ليُطوِّعها لخدمته، وليزدهر اقتصاديًا بأقل عناء، فبُنِيت المصانع، واشترى الناس المحاصيل بدلًا من زراعتها. وكان التجار وأصحاب المصانع الأوائل قليلي العدد، لكنهم رأوا الفرصة في النمو والمستقبل المشرق أمامهم، فكانوا من أوائل أصحاب رؤوس الأموال في النظام الرأسمالي العالمي.
بعد نحو قرنين من الزمان، شهد النظام الاقتصادي تغيرات كثيرة تارة يمينية وأخرى يسارية، ظن مَن يعاصرها أن الدنيا تنتهي هنا، وأن الموارد لن تكفي البشر، وأن الاقتصاد -دائمًا- سيستمر في التدهور، حتى بدا العصر الكائن وقتها أسوأ عصر اقتصادي، ثم ما لبث أن أتى العصر الذي يليه ليكون مأساة أهله الجديدة. الآن، وفي منتصف القرن الواحد والعشرين، لم تنتهِ الدنيا، لكن الاقتصاد العالمي يتدهور كالعادة.
يسود النظام الاقتصادي الرأسمالي العالم في يومنا هذا، مع بعض التعديلات هنا وهناك ليناسب كل دولة حسب مواردها وإنتاجيتها. لكن ما الذي يميز هذا النظام لدرجة سيادته النظم العالمية؟
يقوم النظام الرأسمالي على حرية التجارة والأسواق، ويلغي سيادة الحكومات على حركة الاقتصاد وعلى رؤوس الأموال، ويضعها في يد أصحاب هذه الثروات يتصرفون فيها بما يضمن استمرارها. وكأي نظام اقتصادي آخر، فإن أحد أهدافه الطبيعية هو القضاء على الفقر ونشر الازدهار والرخاء بين الناس جميعًا.
يفترض النظام الرأسمالي أيضًا أن بإمكان أي شخص أن يصبح ثريًا إذا عمل بجد ومثابرة كافيين، إذ لم تعد الموارد حكرًا على جماعة مميَّزة من البشر بناءً على نسبهم أو وضعهم الاجتماعي؛ بل للجميع حرية العمل فيما يرونه مناسبًا لمهاراتهم، ولهم حرية المشاركة في الأسواق العالمية بلا معوِّقات تُذكَر. أليس هذا بمناخ مناسب لبناء الثروة؟!
لماذا إذًا لا يزال هناك مَن هم تحت خط الفقر في عالمنا؟ وما المشكلة في الرأسمالية؟
تشير البيانات (3) إلى أن الفجوة بين الأغنياء والفقراء على مستوى العالم في ازدياد مستمر منذ التسعينيات، تتخللها فترات من الاستقرار النسبي، وفترات تضيق فيها الفجوة قليلًا، لكنها لا تلبث أن تتسع مرة أخرى. ويشير «التقرير السنوي لعدم المساواة» التابع لكلية الاقتصاد في باريس إلى أنه من المتوقع أن تزداد هذه الفجوة في الدخل بشكل ملحوظ خلال العام الحالي.
وتشير بيانات أخرى إلى أن عدد مَن يعانون الفقر المدقع (بدخل لا يتجاوز 2.15 دولار في اليوم) يتخطى 700 مليون شخص، بينما ازداد عدد مَن يعيشون في حالة من الفقر المتوسط (بدخل يقترب من 3.65 دولار في اليوم) بمقدار 8.4 مليون شخص خلال سنة 2023 فقط.
لماذا ينتشر الفقر إذًا؟
للأولويات دور مهم في ذلك؛ فمعظم النُظُم الرأسمالية الحالية لا توفر خدمات أساسية كالصحة والتعليم والنقل مجانًا، وإنما تعُدُّها كباقي السلع التي تخضع لقانون العرض والطلب، فلا يحصل عليها إلا مَن يستطيع تحمُّل تكلفتها، لهذا نرى الأقل حظًا يعملون طوال حياتهم ليستطيعوا توفير هذه الاحتياجات الأساسية وحسب، ومنهم مَن لا يتمكن حتى من تحقيق ذلك! انتشار البطالة سبب آخر يساهم في ارتفاع مستوى الفقر في المجتمعات؛ حيث تشير البيانات إلى أن 5.1% من السكان في عام 2023 عاطلون عن العمل (نلاحظ أن البيانات تحصي مَن هم في سن العمل ويبحثون فعليًا عن وظيفة)، وتشير بيانات أخرى إلى أن هذا العدد قد يزداد. (4)
يعزو الخبراء الرأسماليون ذلك إلى احتياج سوق العمل الحالية إلى مؤهلات أعلى بكثير مما يمتلكها معظم الباحثين عن عمل. ومرة أخرى، يرجع سبب ذلك إلى صعوبة الحصول على تعليم مناسب للفئة الأكبر من البشر. وهكذا ندور في حلقة مفرغة من الفقر الذي يتسبب في تدني المؤهلات، وتدني المؤهلات الذي يحول دون خروج الشخص من هذا الفقر.
وإننا إذ نتناول الظواهر التي ثَبت ارتباطها بارتفاع معدل البطالة، فإن الأمر لا يكاد يستقيم دون ذكر ما يُدعى بـ«فخ الرفاهية» (Welfare Trap)، والذي يتحقق عندما يكون وضع الفرد المادي وهو عاطل عن العمل أفضل منه في حالة كونه يعمل.
تحدث هذه الظاهرة عندما توفر الدولة برامج تنموية تقدم معونات شهرية لمحدودي الدخل والباحثين عن عمل، لتُمكِّنهم من الحفاظ على احتياجاتهم الأساسية، حتى يتحسن وضعهم المادي. فإذا زاد دخل الفرد عن الحد الأدنى، انقطعت تلك المعونة، وفجأة يجد الفرد نفسه محاصَرًا باحتياجات تفوق احتياجاته السابقة من ضرائب، ومصروفات تنقُّل، وعناية بالأطفال (إن وُجِدوا)، فلا يكفي دخله الجديد كل هذه المتطلبات، بل ويرى أنه من الأفضل العودة إلى البطالة والاعتماد على المعونة.
البطالة عدو الازدهار، إلا أن بعض الخبراء يرون أن البطالة -بشكل ما- تفيد أصحاب رؤوس الأموال؛ فتقليل المصروفات وزيادة العائدات هو الهدف الرئيس لأي صاحب عمل. ونظرًا لأن الموظفين يستهلكون جزءًا كبيرًا من تلك المصروفات، فوجود وفرة في الأيدي العاملة يزيد دائمًا من فرصة الحصول على نفس الخدمة مقابل ثمن أقل، أو قيام شخص واحد بالعمل لساعات أكثر من المعدل الطبيعي.
هل يزداد الفقراء فقرًا رغم كل شيء؟
في الواقع، لا، بل العكس صحيح؛ فهناك تقارير أخرى تشير إلى تحسن الوضع الاقتصادي للشعوب بشكل عام مقارنةً بعصور مضت، وقد أشارت دراسات البنك الدولي إلى أن أكثر من مليار شخص تمكنوا من انتشال أنفسهم من تحت خط الفقر خلال الأعوام الخمسة والعشرين الماضية.
ويبدو أن إمكانية تحقيق الثروة الشخصية شيء غير مستحيل؛ فخِلافًا للمعتقَد الشائع بأن أصحاب الثروات قد وُلِدوا في عائلات غنية، أظهرت دراسة أُجرِيت على عدد كبير من أثرياء الولايات المتحدة الأمريكية أن 79% من أصحاب الملايين صنعوا ثروتهم بأنفسهم، وأنهم لم يحصلوا خلال نشأتهم على أي امتيازات خاصة مكَّنتهم من تجميع هذه الثروة؛ إنما كان كل هذا نتيجة الاستثمار والعمل الجاد لسنوات طويلة.(10)
فهل يكمن الحل الاقتصادي في زيادة التنافس؟ أم في المساواة بين الجميع بغض النظر عن مؤهلاتهم؟ وهل يستمر الاقتصاد في النمو كفقاعة لا نهاية لها؟ أم أن هناك حدًا أقصى يضمن توزيع الثروات مع حفظ الموارد؟ لا ضير من بقاء بعض الأسئلة بلا إجابة قاطعة، ولا مفر من التطور المستمر للنظم الاجتماعية والاقتصادية كما عهدناه عبر تاريخ البشرية. ومع السعي المجتمعي المستمر لحماية الإنسان وتوفير الخدمات الأساسية -كالتعليم والصحة- للجميع، سوف تُتاح الفرص أمام كل العقول، وسيظهر المدى الحقيقي لِما يمكن للإنسان تحقيقه.
المصادر:
3)https://wir2022.wid.world/executive-summary/
4) https://www.ilo.org/global/about-the-ilo/newsroom/news/WCMS_908068/lang–en/index.htm
5) https://www.ecnmy.org/learn/your-livelihood/unemployment/what-causes-unemployment/
6) https://ourworldindata.org/poverty
7) https://data.worldbank.org/indicator/SL.UEM.TOTL.ZS?end=2022&start=1991
8) https://www.ecnmy.org/learn/your-livelihood/wages/who-decides-how-much-we-earn
10)https://www.ramseysolutions.com/retirement/the-national-study-of-millionaires-research
11) https://www.aeaweb.org/articles?id=10.1257/aer.103.3.158