قراءة في رحلة صناعة السيارات بالهند – الجزء الثالث
بقلم: سامى فاضل
تحدثنا في المقال السابق عن أثر الأطر السياسية المختلفة على توطين وتطوير صناعة السيارات في الهند وفقًا لما شرحه الباحث الهندي «جاتيندرا سينغ» (Jitendra Singh) في كتابه «الشركات العالمية وصناعة السيارات الهندية» (Global Players and the Indian Car Industry)، ونتابع في هذا المقال تأثيرات هذه الأطر السياسية المختلفة على التدفقات المالية وميزان المدفوعات الهندي.
وقبل البدء لا بد من التنويه أن المؤلف عند تناوله لميزات المدفوعات (وهو سجل لجميع المعاملات التجارية والمالية الدولية التي يقوم بها بلد ما) فإنه يركز حصرًا على الفارق بين التدفقات النقدية الصادرة عن طريق الاستيراد والواردة عن طريق التصدير، ويرجع ذلك إلى معاناة الهند في أوقات كثيرة من عجز ميزان المدفوعات؛ مما يعني الدولة تستورد سلعًا وخدمات ورأسمال أكثر مما تصدر، في هذه الحال يجب علي الدولة أن تقترض أموالًا من الدول الأخرى للدفع مقابل وارداتها.
في هذا الإطار، حاول المؤلف دراسة ما إذا كانت صناعة السيارات في الهند قد ساعدت من تخفيف أو مفاقمة عجز ميزان المدفوعات. وبالعودة إلى المقال الأول من هذه السلسلة ستجد أن في كلا الفترتين 1947 – 1965 و1966 – 1980 كانت الحكومة الهندية تتبع إجراءات حمائية، ولم تسمح بدخول الشركات الأجنبية، وكانت هناك قيود كثيرة فيما يخص عمليات الاستيراد، وبالطبع، كما أوضحنا سابقًا، فإن التكنولوجيا الهندية في صناعة السيارات كانت متخلفة بعقود عن مثيلاتها في باقي العالم، فضلًا عن تركيز الشركات الهندية على السوق المحلية فقط. لم يتناول الباحث الهندي هاتين الفترتين بكثير من البحث لنقص البيانات المتاحة التي يبني عليها تحليلاته، ويبدأ الباحث تحليله بشكل مكثف بدءً من 1980.
المرحلة الثالثة 1981 – 1990: في هذه الفترة تم تخفيف الإجراءات الحمائية والسماح بعقد شراكات تكنولوجية، وكما أوضحنا سابقًا فقد اشتعلت المنافسة بين الشركات المحلية، خاصة بعد دخول شركة القطاع العام المصنعة للسيارات الصغيرة والتابعة لوزارة الصناعة الهندية إلى المنافسة. انتهجت جميع الشركات سياسات استيراد تكنولوجية مكثفة بغرض تطوير سياراتها والمحافظة على حصتها من السوق الهندية أو السعي إلى محاولة زيادتها، ومع تطور صناعة السيارات في الهند يطرح المؤلف السؤال: هل زادت نسبة تصدير السيارات الهندية بعد أن أصبحت متقدمة تكنولوجيًا؟ بالنظر إلى الأرقام يوضح الكاتب أن أرباح الشركات الهندية من الصادرات في تلك الفترة كانت أقل من 1% من نسبة المبيعات مقارنة بنسبة واردات بلغت 41% لبعض الشركات، وينتهي المؤلف أن تلك الفترة أثرت سلبًا على ميزان المدفوعات الهندية.
الفترة الرابعة 1991 – 2016: بيَّنا في المقالات السابقة أن الهند انتهجت سياسة انفتاح واسعة في تلك الفترة بهدف جذب الشركات الأجنبية وجعل الهند قاعدة تصنيع لسيارات العالم. أملت الحكومة الهندية أن تقلل من عجز ميزان المدفوعات وأن تكون لها تجربة مماثلة لجارتها الصين؛ والتي دعمت تجربتها أن هناك علاقة طردية بين نسبة الاستثمارات الأجنبية في الدولة المضيفة وزيادة نسبة التصدير، حيث كانت الشركات الأجنبية في الصين مسئولة عن 55% من صادرات الصين.
قسَّم المؤلف تلك المرحلة إلى ما قبل عام 2000 وما بعده، في الفترة ما قبل عام 2000 كانت في السوق الهندية أربع شركات أساسية تغطي غالبية عمليات تصنيع السيارات في الهند، وجميع هذه الشركات كانت في علاقات شراكات مع شركات عالمية لمساعدتها في الحصول على تكنولوجيا متطورة. خلُص المؤلف بعد تحليل بيانات فترة التسعينات إلى أن الشركات كانت تقوم بعملية استيراد كثيفة للتكنولوجيا مما أثر سلبًا على ميزان المدفوعات الهندي.
أما فيما يخص الفترة ما بعد عام 2000، فقد دخلت العديد من الشركات العالمية السوق الهندية وأصبح لها شركات تابعة على الأراضي الهندية، وبتحليل البيانات على المستوى الكلي لجميع هذه الشركات، فقد شهدت الهند في هذه الفترة زيادة ملحوظة في نسبة الصادرات وزيادتها عن الواردات بعد عام 2009؛ إذ زادت نسبة الصادرات الكلية كنسبة من المبيعات من 2.79% في عام 2000 إلى 10.06% في عام 2005 – 2006 إلى 18.91% في عام 2013 – 2014، بينما انخفضت نسبة الواردات من 17.01% إلى 20.36% إلى 17.91% في نفس الأعوام على التوالى . على الرغم من ذلك وبناءً على النظرة الأقرب لأرقام الشركات المختلفة، يحذر المؤلف أن الصورة الكلية قد تعطي نظرة متفائلة على عكس الواقع، إذ إنه على الرغم من زيادة نسبة الصادرات مقارنة بالواردات، إلا أن هذه النسبة كانت مدفوعة بتحركات شركة واحدة فقط وهي شركة «هيونداي» (Hyundai Motors) الكورية والتي كانت استراتيجيتها اتخاذ الهند قاعدة لتصنيع سياراتها في العالم، ولذلك كانت صادراتها أعلى كثيرًا من وارداتها، ولكن جميع الشركات الأخرى كانت وارداتها أكثر من صادراتها مما يجعل صناعة السيارات الهندية في وضع قلق؛ إذ يمكن أن تؤثر سلبًا علي ميزان المدفوعات إذا قللت شركة هيونداي من صادراتها، وهو ما بدأ لظروف عدة في العام 2013 – 2014.
يفصل الكاتب بشكل واسع فيما بعد دوافع تلك الشركات المختلفة ودوافع شركة هيونداي، ويدعم تحليله بالأرقام فيما يخص الشركات المختلفة ويبين أن السبب في اختلاف نسب الواردات والصادرات يرجع بشكل أساسي إلى استراتيجيات تلك الشركات عند دخولها السوق الهندية، وجميعها -عدا هيونداي- كانت تهدف إلى الاستفادة من السوق الهندية الكبيرة والنامية، ولذلك كان هدفها الأساسي طرح سيارات متقدمة تكنولوجيًا في السوق الهندية، وخاصة السيارات الصغيرة التي عليها طلب عالٍ نتيجة لنمو الطبقة المتوسطة في المجتمع الهندي والتوسع في تسهيل سياسة الإقراض للحصول على سيارة.
في نهاية الكتاب يخلُص الكاتب إلى أن الهند نجحت بالفعل في اجتذاب العديد من الشركات العالمية لإنشاء قدرات تصنيعية في الهند، لكن معظم هذه الشركات كانت تستهدف السوق الهندية ولم تساعد الهند على تطوير تكنولوجيا متقدمة محليًا، وأثرت سلبًا على ميزان المدفوعات، ويبين الكاتب أنه لا بد من سياسة موجهة من الحكومة الهندية لاجتذاب نوعيات الشركات التي تساعدها على تحقيق أهدافها بدلًا من السماح للجميع بالدخول دون قيود، وأن يكون الأمر على أساس الجودة في اجتذاب الاستثمارات وليس الكم.
وبذلك نكون قد وصلنا إلى آخر جزء من أجزاء سلسلة المقالات التي تتبعنا فيها رحلة صناعة السيارات في الهند.
المصادر:
Singh, J., 2018. Global players and the Indian car industry: Trade, technology and structural change. Routledge India.