إنه تأثير الفراشة في أبهى صوره

هل من الممكن لحدث اعتيادي أن يصل بإنسان ما لأن يحدث تغييرًا دائمًا في العالم؟
نعم
، إن وقع هذا الحدث للشخص المناسب. شخص لديه ما يكفي من الإيمان والتفاني والحب لما يفعله.
إنه «تأثير الفراشة» في أكمل صوره، وكنت سعيد الحظ بما يكفي لأشهد أحد هذه التحولات.

هل سمعت عن «أكاديمية خان» من قبل؟
هي أكاديمية تعليمية على الإنترنت تحوي -وقت كتابة هذه السطور- آلاف الفيديوهات التعليمية في الرياضيات، والتاريخ، والصحة، والطب، والأحياء، والفيزياء، والاقتصاد، والفلك وعلم الكونيات، والكيمياء، والكيمياء العضوية وأخيرًا علوم الحاسب. كانت تستهدف في البداية طلبة المراحل ما قبل الجامعية، ثم توسعت إلى ما أبعد من ذلك لاحقًا. في الحقيقة تأثير الأكاديمية أكبر بكثير من مجرد مجموعة من الدروس المجانية على الإنترنت، حيث أحدثت تحولًا جذريًا في مفهوم «التعلم و التعليم» كما سنذكر لاحقًا.

إن متعة المعلم في الحياة تتمثل في أن يصل علمه لأكبر قدر من المستفيدين، فإذا كان عدد المستفيدين من التجربة التي قمت بها يتعدى عدد من درستهم في العشرين عامًا الماضية، فكيف يتطلب أمر استقالتي من الجامعة الكثير من التفكير؟

سباستيان ثرن

البداية

سلمان خان مُتحدثًا في أحد مؤتمرات تيد عام ٢٠١١ – مصدر الصورة، بتصرف

بطل الرواية هو «سلمان خان».
«سلمان» هو مواطن أمريكي من أصل بنجلاديشي. ببلوغه السابعة والعشرين كان قد حصل بالفعل على أربع درجات علمية، ثلاث من MIT (بكالوريوس الرياضيات، بكالريوس الهندسة الكهربية وعلوم الحاسب، ماجستير علوم الحاسب) وواحدة من جامعة هارفارد (ماجستير إدارة الأعمال). لمن لا يعرف MIT وهارفارد، هما مؤسستان تعليميتان لا تخرجان غالبًا من الثلاثة مراكز الأولى على مستوى العالم في قوائم تقييم المؤسسات التعليمية السنوية.

في يوم من أيام عام ٢٠٠٤، كان سلمان يدرس ابنة عمه «نادية» الرياضيات باستخدام تطبيق مشابه للرسائل الفورية. فكر سلمان في وضع فيديوعلى اليوتيوب يلخص محتوى الدرس ثم قام بإرساله. كما يقول سلمان، فقد أحبت نادية النسخة الإلكترونية منه أكثر منه شخصيًا عندما تعلق الأمر بالتدريس، فقد كان باستطاعتها أن «تعيد تشغيل ابن عمها» عدة مرات دون أن تشعر أنها تضيع وقته. باستثناء بعض التعليقات الإيجابية من بعض سكان الإنترنت الذين قابلوا الفيديو مصادفة على شاكلة (لقد حاولنا كل شيء مع ابننا ليتعلم الأرقام العشرية لكننا فشلنا، وها هو الآن يتقنها بفضلك)، فلم يحدث الكثير.

لكن كان هذا أكثر من كاف لسلمان ليكمل ما بدأه، تحولت التجربة إلى شغف لدى سلمان. أنتج المزيد والمزيد من هذه الدروس ووسع نطاقها لتتعدى الرياضيات. ابتكر سلمان طريقة «المايكرو فيديو» كحل لإضفاء المزيد من التفاعلية على عملية التدريس باستخدام الفيديو: بدلًا من تصوير المدرس وهو يقوم بالشرح لمجموعة من الطلبة لمدة 50 دقيقة متواصلة، قام سلمان بتقسيم كل درس إلى مجموعة من الفيديوهات لا يتعدى طولها في المتوسط 10 دقائق، واعتمد أسلوب «الشرح التفاعلي» إن جاز التعبير، حيث لا يظهر هو في أي من فيديوهاته، فقط صوته وهو يتكلم بطريقة أقرب لمحادثة عادية بين شخصين منها لشرح مدرس في فصل دراسي، بالإضافة إلى شاشة سوداء للكتابة عليها.

نقطة فاصلة

في عام ٢٠٠٦ أطلق سلمان موقع «أكاديمية خان» كمكان موحد للوصول لكل المحتوى التعليمي الذي ينتجه. استمر سلمان واستمرت ردود الأفعال الإيجابية في الازدياد إلى أن وصل إلى نقطة اختيار فاصلة في حياته عام ٢٠٠٩، والتي سيتضح لاحقًا أنها نقطة فاصلة في تاريخ التعليم للأبد. كان عليه الاختيار بين أن يترك عمله كمحلل مالي في مكان مرموق مما يعني أنه سيكون بلا دخل، أو أن يأخذ هوايته التي بدأها منذ خمسة سنوات للمستوى التالي. ترك سلمان صاحب الدرجات العلمية الأربعة عمله ليتفرغ بالكامل لأكاديميته. يقول بيل جيتس مؤسس شركة مايكروسوفت عن هذا اليوم «لقد كان يومًا سعيدًا عندما سمحت زوجة سلمان له أن يترك عمله ليتفرغ لأكاديمية خان». يبدو الأمر كما لو أن سلمان قد وجد أن تعليم الناس أثمن كثيرًا وأكثر إمتاعًا من أن يضيع وقته في جمع المال، كما لو أنه قد وجد الهدف من وجوده في الحياة.

طريق طويلة قطعها سلمان في التأقلم مع حياته الجديدة بوضعه الحالي، سعى كثيرًا لجمع التبرعات للأكاديمية، لجذب المزيد من الأشخاص لمساعدته، كان جليًا له أنه مقبل على أمر لن يتم كما يريده بجهود فردية. في عام ٢٠١١ تحدث سلمان في أحد مؤتمرات TED عن تجربته، وكيف كان تأثيرها عليه نفسيًا، وكيف يرى تأثيرها على التعليم ومستقبله، ثم كيف سيؤثر كل ذلك على العالم، وتمنى في آخر كلمته أن يحذو أساتذة الجامعات حذوه.

كلمة غيرت العالم

كان من بين المستمعين البروفيسور «سباستيان ثرن»، الأستاذ بجامعة ستانفورد (جامعة ستانفورد هي التوأم الثالث لهارفارد وMIT) و أحد رواد علم الذكاء الاصطناعي في العالم. شهور قليلة مرت قبل أن تطلق جامعة ستانفورد الكورس التعليمي الشهير «مقدمة في علم الذكاء الاصطناعي» تحت إشراف البروفيسور «سباستيان ثرن» و«بيتر نورفيج» -أحد أعمدة علم الذكاء الاصطناعي ورائد الترجمة الآلية في مراكز أبحاث جوجل- كتجربة لقياس مدى كفاءة الطريقة التي ابتكرها سلمان في تدريس واحدة من أكثر المواد العلمية تعقيدًا.

كانت النتائج مذهلة!
مذهلة للدرجة التي دفعت سباستيان ثرن للاستقالة من جامعة ستانفورد ليتفرغ بالكامل لجامعته الافتراضية على الإنترنت «يوداسيتي» التي أنشاها لتقديم المزيد من العلم المجاني للجميع، تمامًا كما فعل سلمان قبل عامين.

تحول الأمر بعدها من تجربة إلى ظاهرة عالمية، بكل ما تحمله كلمة ظاهرة من معنى، سميت لاحقًا بـ Massive Open Online Course (MOOC). أصبح المحتوى التعليمي لأفضل الجامعات العالمية متاحًا للجميع ومجانًا. بغض النظر عن عمرك أو جنسيتك أو مكانك لا تحتاج الآن لأكثر من وصلة إنترنت مناسبة لتتعلم أي شيء بمعنى أي شيء. في أبريل ٢٠١٢، تم إضافة سلمان خان لقائمة أكثر ١٠٠ فرد تأثيرًا في العالم للعام ٢٠١٢.

وهكذا كانت «نادية» هي بداية سلسلة أحداث تأثير الفراشة، إن لم تكن في حاجة إلى بعض المساعدة في الرياضيات، لم يكن لكل ذلك أن يحدث.
نادية هي «تفاحة نيوتن» القرن الواحد والعشرين.

Show More

One Comment

  1. هذا نموذج رائع للنجاح… خاصة أن سلمان خان تخلى عن وظيفته التي تدر عليه الأرباح الكثيرة، واختار المغامرة من أجل تغيير أسلوب التعليم بشكل جذري.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button