الإنسان وذكاء الآلة: إلى أين؟

إحدى المشاكل التي يواجهها علم الذكاء الاصطناعي في محاولته للوصول لذكاء الإنسان، تكمن في افتقاده لخصيصة نتمتع بها نحن البشر، يُطلق عليها «الإدراك الشائع» (Common Sense).

وبعيدًا عن الجدل الفلسفي حول تعريفه، يمكننا النظر لـ «الإدراك الشائع» على أنه ذلك النوع من المعرفة الفطرية (إلى حد ما) التي يمتلكها كل البشر (جدلًا)، والتي تمكنهم من إطلاق حكم لحظي حيال أشياء محددة بالاعتماد على المدخلات الحسية (الحواس) فقط.

مثال: إذا رأيت نارًا، فإنك لن تمد يدك لتمسكها.

لماذا؟ في الحقيقة أنت لم تفكر في الأمر، بمجرد أن رأيت النار (مُدخل حسي) أدركت لحظيًا أنه لا يجب عليك أن تقترب منها، لأنك ستتأذى (حكم لحظي)، معرفة أن الاقتراب من النار يسبب الأذى، أو أن القفز من فوق ناطحة سحاب سيسبب الموت (على الرغم من أنك لم تجرب ذلك)، أو أن اليد هي جزء من الجسم، أو أن السفينة تبحر في الماء..إلخ كل هذه أمثلة لما يُطلَق عليه الإدراك الشائع.

هناك الكثير من الجدل حول مصدر هذا «الإدراك الشائع»، هل يولد به الإنسان؟ أم أنه يكتسبه، ويبني «مكتبة من المعرفة الشائعة» بمرور الوقت وتفاعله مع البشر؟

يتبنى باحثو الذكاء الاصطناعي وجهة النظر الثانية، لكن هناك مشكلة: بناء مكتبة من المعرفة الشائعة يدويًا أمر معقد جدًا، فبالإضافة إلى أن هناك جدلًا حول أن «الإدراك الشائع» أساس نسبي (أي أن ما يجده مجموعة من البشر أمرًا بديهيًا قد يجده آخرون غريبًا)، وعليه يستحيل تحديد كافة المعلومات التي يجب أن تتضمنها هذه المكتبة، فإن كمية البيانات المطلوب إدخالها  (والمستنتجة بصورة رئيسية من معلومات بصرية، حيث أننا نعتمد على أعيننا في إدراك العالم أكثر من أي شيء) هائلة للدرجة التي تجعل مجرد المحاولة غير عملية!

هل استسلم الباحثون؟
لا، هكذا أخبرنا مجموعة من الباحثين بمؤسسة الروبوتيات التابعة لجامعة كارنيجي ميلون، عبر المشروع البحثي الذي يقومون عليه الآن، ويمكننا أن ننظر لما قاموا به على أنه إجابة لثلاثة أسئلة:

س: ألا يبني الإنسان «الإدراك الشائع» بمرور الوقت بالاعتماد على قدرته على التعلم؟
ج: بلى، إذًا فلنكتب برنامج كمبيوتر لديه القدرة على التعلم.

س: ألا يعتمد الإنسان على عينيه (الرؤية) في بناء مكتبته المعرفية؟
ج: بلى، إذًا فلنكتب برنامج كمبيوتر يستطيع الرؤية (أو بلفظ أدق، يمكنه فهم الصور).

س: ألا يمثل العالم الذي يعيش فيه الإنسان البيئة التي تحتوي على «العناصر» التي يستخلص منها المعلومات والعلاقات ليبني بها مكتبته المعرفية؟
ج: بلى، إذًا فلنلقي بهذا البرنامج داخل «الإنترنت» ليتعلم من رؤيته للصور!

ومن هنا ولد مشروع «مُتعلم الصور المستمر»!

علاقات بصرية بديهية تعلمها برنامج «نيل» – مصدر الصورة جامعة كارينجي ميلون، بتصرف

المشروع «نيل» (NEIL) -وهو اختصار لجملة «مُتعلم الصور المستمر» (Never Ending Image Learner)- يهدف ببساطة إلى أتمتة عملية بناء مكتبة «الإدراك الشائع» للكمبيوتر عن طريق تنفيذه للمهام الثلاثة السابقة بمفرده بأقل تدخل بشري ممكن.

يقضي «نيل» وقته (24 ساعة/ 7 أيام في الأسبوع لمدة تخطت الأربعة أشهر حتى وقت كتابة هذا المقال) في البحث عن الصور على الإنترنت وبناء مكتبته البصرية، بعد ذلك يبذل أفضل ما لديه في فهمها، ليستخلص منها مكتبة أخرى لـ «الإدراك الشائع» الذي تحدثنا عنه، وذلك عن طريق عمل علاقات بين العناصر المختلفة التي يراها في الصور.

مثلًا، كتلك العلاقات التي نراها في الصورة بالأعلى، أو غيرها مثل (السيارات غالبًا ما تتواجد في الطرقات، الأبنية غالبًا ما تكون رأسية، البط يشبه الأوز).

حتى الآن، بحث «نيل» في الملايين من الصور، وتعرف على 1500 عنصر مختلف في نصف مليون صورة، وتعرف على 1200 مشهد مختلف في مئات الآلاف من الصور، بعد ذلك قام بتوصيل النقاط ليتعلم 2500 علاقة مختلفة بين الأشياء بمشاهدته لآلاف من الأمثلة.

على الرغم من أن الباحثين هم من يقومون بتوجيه «نيل» للفئة أو العنصر أو المشهد الذي عليه البحث عنه، إلا أنه يفاجئهم من حين لآخر، مثلًا لم يتعرف «نيل» فقط على المقاتلات من نوع F-18 عندما طُلب منه البحث عنها، بل تعرف أيضًا على نوع العوامات المائية التي تحملها!

وعلى الرغم من هذا، قد يرتكب «نيل» بعض الأخطاء، لذا لا يستطيع الباحثون تركه يعمل بمفرده بالكامل، بل يحتاجون إلى تصحيح بعض استنتاجاته من حين لآخر، مثلًا قد يقنع جوجل «نيل» أن كلمة “Pink” تشير إلى اسم مطربة، بدلًا من إشارتها إلى لون.


إلى أين نتجه؟ وما موضعنا من الإعراب بين كل هذا؟

لا أعلم تحديدًا. لكن ما أعلمه يقينًا أننا نتجه نحو عالم ممتع (بالنسبة لي على الأقل)، ومع ذلك شديد القسوة؛ لأنه لن يرحم الجاهل!

المصادر
Kurzweil: Carnegie Mellon computer searches web 24/7 to analyze images and teach itself common sense
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى