مجال هيجز ومنشأ الكتلة (الجزء الثاني)

الكاتب: مصطفى عشري – طالب دكتوراة ومدرس مساعد بكلية العلوم جامعة القاهرة – مساعد باحث بمركز الفيزياء الأساسية بمدينة زويل للعلوم والتكنولوجيا

صورة 1: تجربة أطلس في مصادم الهادرونات الكبير 2010، منشأ الكتلة (https://www.youtube.com/watch?v=0ILLQUilpzg&list=PLA5D8B95B12B4427A)

صورة 1. منشأ الكتلة: تفاعل مباشر لجسيم مع مجال هيجز الذي يملأ الفراغ كليًا. التفاعل يبطئ الجسيم ويكسبه كتلة.

مقدمة

علمنا في الجزء الأول أن الكتلة ليست كمية أساسية للجسيمات، بل تنشأ نتيجة تفاعلاتها المباشرة مع مجال هيجز، وتتحدد قيمتها بشدة التفاعل مع مجال هيجز وقيمة vev لمجال هيجز. تحدثنا أيضًا عن الجسيمات الأولية وتفاعلاتها الأساسية، والآن سنتحدث عن تفاعلات الجسيمات مع مجال هيجز، وكيفية نشأة الكتلة مقدارًا. كما سنتحدث عن اكتشاف جسيم هيجز في مصادم الهادرونات الكبير ونشأة كتل النيوترينوات.

تفاعلات هيجز

جسيمات المادة وبوزونات القوة النووية الضعيفة W+/-, Z تتفاعل مع مجال هيجز عن طريق القوة النووية الضعيفة، كما أن بوزون هيجز يمكنه التفاعل مع مجال هيجز بنفسه مباشرة. وعندما يكون طاقة مجال هيجز عن أدنى مستوى لها، تكون قيمة هيجز متذبذبة حول قيمة vev والجسيمات المتفاعلة مباشرة مع مجال هيجز تكتسب كتلها

https://www.sps.ch/en/artikel/nobelpreise/the-2013-nobel-prize-in-physics

(صورة 2).

تتحدد التفاعلات المباشرة للفرميونات (f) والبوزونات الضعيفة W+/-, Z مع مجال هيجز (H) عن طريق الحدود التالية:

(yf)Hff

(gw^2)HHWW

(gz^2)HHZZ

 بينما يتفاعل بوزون هيجز ذاتيًا مع مجال هيجز عن طريق الحد التالي: (λh^2)HHHH

https://www.fnal.gov/pub/today/archive/archive_2011/today11-11-18_NutshellStandardModelReadMore.html

(صورة 3)

ومعاملات التفاعلات(yf,gw,gz,λh)  معاملات عددية لها قيم مطلقة تحدد شدة التفاعلات مع مجال هيجز عند مستوى طاقة معين للكون. وعلى الرغم من أننا ذكرنا سابقًا أن الفوتونات والجلونات لا تتفاعل مباشرةً مع مجال هيجز إلا أن بعض الجسيمات التي يمكنها أن تتفاعل مع الجلونات أو الفوتونات من ناحية ومع مجال هيجز من ناحية أخرى يمكنها أن تتوسط التفاعلات بين الفوتونات أو الجلونات وبين مجال هيجز بطريقة غير مباشرة. هذه التفاعلات بين الفوتونات أو الجلونات وبين مجال هيجز بالطبع لا تُكسب الفوتونات أو الجلونات أية كتل ولكنها تمكن بوزون هيجز من التحلل إلى فوتونات أو جلونات.

كتل الجسيمات

تبعًا لآلية هيجز في النموذج المعياري، نجد أن كتلة أي جسيم تتناسب مع القيمة العددية لشدة تفاعل هذا الجسيم مع مجال هيجز كما تتناسب أيضًا مع قيمة vev لمجال هيجز، أي أن:

كتلة جسيم = شدة تفاعل الجسيم مع مجال هيجز× قيمة vev لمجال هيجز

فتكون كتلة فرميون f:

mf=yf×vev

وكتل البوزونات الضعيفة W+/-, Z:

MW=gw×vev

MZ=gz×vev

وأخيرًا كتلة بوزون هيجز:

mh=λh×vev

نلاحظ هنا أن المعاملات (yf,gw,gz,λh) وقيمة  vevلمجال هيجز اعتبرت قيمًا أساسية، بينما اعتبرت كتل الجسيمات كميات غير أساسية، لكنها مشتقة من تلك العوامل الأساسية نتيجة تفاعل الجسيمات مع مجال هيجز. أي أن:

الجسيم لا يأتي إلى الوجود وله كتلة معيّنة، بل تكتسب الجسيمات كُتَلَها، والكتلة ليست كمية أساسية للجسيمات.

ومع ذلك فإن النموذج المعياري لا يعطي القيم العددية للعوامل (yf,gw,gz,λh) ولا قيمة vev لمجال هيجز، وبالتالي لا يحدد قيم كتل الجسيمات، بل يجب قياسها تجريبيًا، إلا أن باحثي الفيزياء النظرية استطاعوا استغلال هذا القصور في النموذج المعياري وتحديد قيمة vev لمجال هيجز التي تعطي القيم الصحيحة لكتل الجسيمات لتكون vev =246 جيجا إلكترون فولت. كما أن النموذج المعياري يتنبأ بأن النيوترينوات عديمة الكتلة، في حين أن ظاهرة تذبذب النيوترينوات وتحولها إلى بعضها البعض أثناء انتشارها تؤكد أن النيوترينوات لها كتل ضئيلة بفروق طفيفة فيما بينها [1-3]. 

اكتشاف بوزون هيجز في مصادم الهادرونات الكبير

نظرًا لقصر متوسط نصف عمر بوزون هيجز، فإنه لا يمكن رصده مباشرةً، بل يتم رصده من خلال الجسيمات التي يمكنه أن يتحلل إليها، وهكذا تم اكتشافه في مصادم الهادرونات الكبير [4,5].المراجع [2,3]

ذكرنا سابقًا أن بعض الجسيمات يمكنها أن تتوسط التفاعلات بين الفوتونات وبوزون هيجز بطريقة غير مباشرة وأن هذه التفاعلات تُمَكن بوزون هيجز من التحلل إلى زوج من الفوتونات (Hɣɣ). وعلى الرغم من أن إمكانية هذا التحلل ضعيفة، إلا أنه يمكن رصده بوضوح في مصادم الهادرونات الكبير. في الشكل المقابل نلاحظ أن من الممكن ظهور زوج من الفوتونات من مصادر متعددة، إلا أن ظهورها نتيجة تحلل بوزون هيجز تحديدًا يتسبب في زيادة عددها في المرصد عما كان متوقعًا عند طاقة تعادل كتلة بوزون هيجز 125 جيجا إلكترون فولت الواضحة عند النتوء الظاهر في منتصف الشكل تقريبًا [4,5] (صورة 4).

المراجع [2,3]

كذلك التفاعل المباشر بين بوزون هيجز وبوزونات Z يجعل بوزون هيجز يتحلل إلى زوج من هذه البوزونات (HZZ). ولكن متوسط نصف عمر بوزونات Z صغير أيضًا وبالتالي يمكن رصدها عن طريق نواتج تحللاتها. ومن أوضح هذه التحللات في مصادم الهادرونات الكبير أن نجد أربعة لبتونات ناتجة من زوج بوزونات Z. في الشكل المقابل نلاحظ أن من الممكن ظهور أربعة لبتونات من مصادر متعددة، إلا أن ظهورها نتيجة تحلل بوزون هيجز إلى زوج من بوزونات Z يتسبب في زيادة عددها في المرصد عما كان متوقعًا عند طاقة تعادل كتلة بوزون هيجز 125 جيجا إلكترون فولت الواضحة عند النتوء  الظاهر باللون الأزرق في منتصف الشكل [4,5] (صورة 5).

وأيضًا التفاعل المباشر بين بوزون هيجز وبوزونات W+/- يجعل بوزون هيجز يتحلل إلى زوج من هذه البوزونات (HWW). ولكن متوسط نصف عمر بوزونات W+/- صغير أيضًا، وعليه يمكن رصدها عن طريق نواتج تحللاتها. ومن أوضح هذه التحللات في مصادم الهادرونات الكبير أن نجد زوجًا من اللبتونات معكوسة الشحنات ناتجة عن زوج من بوزونات W+/- ومصحوبة بطاقة مفقودة حملتها جسيمات النيوترينوات التي يمكنها الخروج من المرصد دون أثر مباشر. في الشكل المقابل نلاحظ أنه من الممكن ظهور زوج من اللبتونات المشحونة من مصادر متعددة، إلا أن ظهورها نتيجة تحلل بوزون هيجز تحديدًا إلى زوج من بوزونات W+/-  يتسبب في زيادة عددها في المرصد عما كان متوقعًا عند طاقة قريبة من كتلة بوزون هيجز 125 جيجا إلكترون فولت الواضحة عند النتوء الظاهر باللون الأحمر في الشكل [4,5] (صورة 6).

المراجع [2,3]

مصدر الكتلة

علمنا أن معظم الجسيمات ذوات الكتل قد اكتسبت كتلها عن طريق آلية هيجز، ولكن هل كل الجسيمات تكتسب كتلها بهذه الطريقة؟

تظل كتل النيوترينوات ظاهرة محيرة للباحثين، وذلك نظرًا لقيمها متناهية الصغر وترتيب التفاوت فيما بينها بعضها البعض والتفاوت الكبير بينها وبين كتل الجسيمات الأخرى. هناك اعتقادٌ سائدٌ لتفسير ذلك أن النيوترينوات لا تكتسب كتلها عن طريق آلية هيجز فقط، وإنما أيضًا جزئيًا عن طريق «آلية الأرجوحة» (Seesaw Mechanism) (انظر الشكل المقابل (صورة 7)) [6-9]؛ حيث يُعتقد أنه كان هناك نوعٌ آخر من النيوترينوات الثقيلة (N) التي يتسبب اختلاطها مع النيوترينوات الخفيفة (v) في مجال هيجز (yv vNH) أن تكون كتل النيوترينوات الخفيفة بهذه الضآلة، ويُعتقد أيضًا أن تلك النيوترينوات الثقيلة كانت موجودة في بداية نشأة الكون، لكنها تحللت ولم تُكتشف آثارها بعد.

https://sciencesprings.wordpress.com/2016/02/10/from-symmetry-neutrinos-on-a-seesaw/

تتحدد كتل الجسيمات بشدة تفاعلاتها المباشرة مع مجال هيجز وقيمة vev لمجال هيجز، كما يُعتقد أن كتل النيوترينوات لا تنشأ بآلية هيجز فقط وإنما بآلية الأرجوحة أيضًا باختلاطها مع النيوترينوات الثقيلة عند نشأة الكون.

قائمة المراجع

  1. Fukuda, Y. and others, Super-Kamiokande collaboration, Evidence for oscillation of atmospheric neutrinos, Phys. Rev. Lett. 81, 1998, pp. 1562–1567
  2. Q. R. Ahmad et al, SNO Collaboration, Measurement of the Rate of nu_e+d->p+p+e^- Interactions Produced by B Solar Neutrinos at the Sudbury Neutrino Observatory, Phys. Rev. Lett. 87, 2001, pp. 071301
  3. Q. R. Ahmad et al, SNO Collaboration, Direct Evidence for Neutrino Flavor Transformation from Neutral-Current Interactions in the Sudbury Neutrino Observatory, Phys. Rev. Lett. 89, 2002, pp. 011301
  4. The ATLAS Collaboration, Observation of a new particle in the search for the Standard Model Higgs boson with the ATLAS detector at the LHC, Physics Letters B Volume 716, Issue 1, 17 September 2012, Pages 1-29
  5. The CMS Collaboration, Observation of a new boson at a mass of 125 GeV with the CMS experiment at the LHC, Physics Letters B Volume 716, Issue 1, 17 September 2012, Pages 30-61
  6. Rabindra N. Mohapatra and Goran Senjanović, Neutrino Mass and Spontaneous Parity Nonconservation, Phys. Rev. Lett. 44, 912 – Published 7 April 1980
  7. M. Gell-Mann, P. Ramond, and R. Slansky, Supergravity (P. van Nieuwenhuizen et al. eds.), North Holland, Amsterdam, 1980, p. 315;
  8. T. Yanagida, in Proceedings of the Workshop on the Unified Theory and the Baryon Number in the Universe (O. Sawada and A. Sugamoto, eds.), KEK, Tsukuba, Japan, 1979, p. 95
  9. S. L. Glashow, The future of elementary particle physics, in Proceedings of the 1979 Carg`ese Summer Institute on Quarks and Leptons (M. L´evy et al. eds.), Plenum Press, New York, 1980, pp. 687– 713

قائمة مراجع الصور

  1. صورة 1: تجربة أطلس في مصادم الهادرونات الكبير 2010، منشأ الكتلة https://youtu.be/0ILLQUilpzg?list=PLA5D8B95B12B4427A&t=145 
  2. صورة 11: الجمعية السويسرية للفيزياء 2013، جهد مجال هيجز ويشبه القبعة المكسيكية https://www.sps.ch/en/artikel/nobelpreise/the-2013-nobel-prize-in-physics 
  3. صورة 12: معجل جسيمات فيرمي (Fermi Lab) القومي 2011، النموذج المعياري لفيزياء الجسيمات الأولية https://www.fnal.gov/pub/today/archive/archive_2011/today11-11-18_NutshellStandardModelReadMore.html 
  4. الصور 4، 5، 6: المراجع [4,5] اكتشاف بوزون هيجز في مصادم الهادرونات الكبير من خلال تحلله إلى فوتونين، أو 2 بوزون Z ثم أربعة لبتونات أو 2 بوزون W ثم لبتونين وطاقة مفقودة محمولة بالنيوترينوات التي لا يمكن رصدها مباشرةً في مصادم الهادرونات الكبير.
  5. صورة 7: ScienceSprings 2016، آلية الأرجوحة لكتل النيوترينوات https://sciencesprings.wordpress.com/2016/02/10/from-symmetry-neutrinos-on-a-seesaw/ 
اظهر المزيد

مصطفى عشري

أهتم بمجالات العلوم والتكنولوجيا عمومًا، وأهتم بالرياضيات والفيزياء النظرية وعلوم الكونيات على وجه خاص. أهوى الكتابة العلمية في نظرية الكم ونظريات النسبية وتطبيقاتها في فهم التثاقل والطاقة والزمان والمكان، كما أبحث في الجسيمات الأوليّة وتفاعلاتها، وفهم مجال هيجز وخصائص جسيم هيجز، وأسعى إلى ربط المبادئ الأساسية للعلوم بعضها ببعض، واستنباط مبادئ أخرى. من ناحية أخرى، فإن اهتمامي بالإنسان من الداخل والعلاقات بين الناس يوازي اهتمامي بالعلوم. لذلك فالأدب بما يشمله من كلمات في نظم مختلفة (كالشعر والنثر والمقال والقصص القصيرة والروايات) جزء من وجداني أتذوقه وأتأثر به، كما أهوى السفر واكتشاف طباع الناس وعاداتها في المجتمعات المختلفة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى