التأثير الفلكي على تغير المناخ

لا يخفى على أحد ما وصلت إليه مشكلة المناخ من تعقيد، ولا تخفى كذلك الجهود المبذولة من الدول والأفراد لإيجاد حلول جذرية وسريعة للسيطرة على المشكلة والحد من تفاقمها.

برغم تعدد الأسباب -البشرية في أغلبها- التي أدت إلى خلق تلك الأزمة منذ الثورة الصناعية وحتى اليوم، فمصطلح التغير المناخي مصطلح أوسع ويحوي عوامل أكثر بكثير من العوامل البشرية قصيرة المدى، ونحن بصدد التعرض لبعض تلك العوامل ذات المفهوم الأشمل، والنظر للتغير المناخي من منظور مختلف وأبعد قليلًا؛ من منظور فلكي.

يوجد كوكبنا -ذو الترتيب الثالث بين كواكب المجموعة الشمسية من حيث قربها من الشمس- في موقع يؤهله لامتلاك مقومات الحياة؛ فالطقس على كوكب الأرض وسط بين الحرارة والبرودة المتطرفتين والسائدتين في باقي الكواكب، إلى جانب وجود الماء اللازم لتكوّن الحياة، ثم وجوده في صوره الثلاث (الصلبة والسائلة والغازية) في ذات الوقت.

لكن هذا الوضع قابل للتغيير؛ فالأرض المُعلَّقة في الفضاء، لا تملك من الأمر شيئًا، معرضةٌ لعوامل عدة قد تؤدي لانقلاب الحال للأبد.

«دورات ميلانكوفيتش» (Milankovitch Cycles):

وضع العالم الصربي «ميلوتين ميلانكوفيتش» (Milutin Milankovitch) نظريته حول المتغيرات الثلاثة المؤثرة في مناخ الأرض في فترة زمنية تمتد من عشرات إلى مئات الآلاف من السنين (التغير المناخي طويل المدى). تؤدي تلك المتغيرات الثلاثة إلى التحكم في كمية الإشعاع الشمسي الذي تتعرض له الأرض في فترة زمنية ما، والذي هو أساس التغيرات الجذرية عند ميلانكوفيتش. توضح نظريته ما يمكن أن يحدث في مناخ الأرض من تغيرات خلال المستقبل البعيد وكيفية حدوثها، كما تفسر أيضًا كيف تكونت العصور الجليدية على مر تاريخ الأرض. وهذه العوامل هي كالتالي:

1. انحراف مدار الأرض:

تدور الأرض حول الشمس في مدار إهليلجي، يقترب أحيانًا من الشمس ويبتعد في أحيان أخرى. حاليًا، يبلغ الفرق بين أقرب نقطة للكوكب من الشمس: «الحضيض الشمسي» (Perihelion)، وأبعد نقطة عنها: «الأوج الشمسي» (Aphelion) نحو خمسة مليون كيلومترًا. ورغم هذا يعتبر مدار الأرض من أكثر المدارات استدارة بين كواكب النظام الشمسي. لكن شكل هذا المدار ومدى استدارته معرض للتغير، وذلك بسبب قوى الجاذبية المضادة بين الشمس من جهة والمشتري وزحل -عملاقا المجموعة الشمسية- من جهة ثانية.

يؤدي هذا الفرق البسيط -نسبيًا- بين أقرب وأبعد نقطة إلى حصول الأرض على طاقة شمسية أعلى في شهر يناير (حين تبلغ نقطة الحضيض) بمقدار 6.8% مما تحصل عليه في يوليو (حين تبلغ الأوج)، أما إذا بلغت الأرض أكثر مداراتها إهليلجية، عندها تزداد هذه النسبة لتكون 23% من الفرق في الطاقة الشمسية.

يؤثر هذا العامل على تغير طول الفصول على كوكب الأرض؛ فكلما كان المدار أكثر استدارة، كانت الفصول أكثر تقاربًا في طولها، والعكس بالعكس. ولكن ليكون ذا تأثير مُلاحَظ، يحتاج عامل انحراف مدار الكوكب إلى سنوات طويلة، حيث تكتمل دورته كل 100 ألف عام، حينها تبدو التغيرات في المناخ السائد قوية.

2. اختلاف ميل محور دوران الكوكب:

ينحرف محور دوران الأرض عن الزاوية العمودية على مداره بزاوية تقدر بـ 23.4 درجة، وعبر ملايين السنين من عمر الأرض تتراوح تلك الزاوية من 22.1 إلى 24.5 درجة ميل. لا ندري على وجه التحديد ما الذي أدى إلى ميلان المحور من الأساس، ويُعتقد -في فرضية الاصطدام العظيم لتكون القمر- أن شيئًا كبيرًا ككُوَيكب ضخم قد اصطدم بالأرض في قديم الزمان، فأدى إلى إزاحة المحور قليلًا عن الزاوية العمودية التي كان يصنعها. ولكن ميلان المحور بهذا الشكل شيء أساسي لوجود الحياة، فهو المسؤول عن تغير الفصول على مدار العام، ومع ذلك فمقوم الحياة هذا قد يشكّل -هو نفسه- تهديدًا.

كما أشرنا، فقد تغيرت تلك الزاوية في الماضي ويُتوقع تغيرها مستقبلًا، والتغير بالزيادة يؤدي إلى تعرض قطبَي الكرة الأرضية لكمية أكبر من الإشعاع الشمسي، ما يؤدي إلى ذوبان الجليد بمقدار أعلى، وبالتالي يزداد متوسط درجة حرارة الكوكب. أما التغير بالنقصان فيؤدي إلى تعرض قطبَي الكرة الأرضية إلى كمية أقل من الإشعاع الشمسي، ما يسمح بتكون الجليد وانتشاره. وللجليد نفسه دور مهم في تغيير في درجة حرارة الكوكب، حيث يعمل على عكس أشعة الشمس الساقطة على سطح الأرض، فيقل متوسط درجات حرارة الكوكب ككل، ما يغذي زيادة تكون الجليد. تلك الحلقة من التغذية الإيجابية يُعتقد أن تؤدي في النهاية إلى تكون العصور الجليدية.

3. «المبادرة المحورية» (Axial Precession):

يصف هذا العامل تأرجح الأرض في أثناء دورانها حول محورها، فهي لا تدور حول نقطة واحدة كأي دوران مثالي، وإنما يصنع محور الأرض دائرة صغيرة. وما يمنع دوران الأرض المثالي حول محورها هو تعرضها المستمر لقوى الجذب مختلفة الاتجاهات التي يفرضها عليها القمر من جهة والشمس من جهة أخرى. حاليًا يشير محور الأرض إلى نجم «الشمال» (Polaris). لكن، وخلال بضعة آلاف من السنين، سيشير إلى نجم «الراعي» (Errai or Gamma Cephei) ثالث ألمع نجوم «كوكبة الملتهب» (Cepheus Constellation).

نجم الراعي كما يظهر في كوكبة الملتهب. يمكن إيجاده عن طريق رسم خط يمتد من نجم الشمال إلى نجم «الكف الخضيب» (Caph) في «كوكبة ذات الكرسي» (Cassiopeia Constellation). يقع الراعي في ثلث ذلك الخط الوهمي.
المصدر: موقع earthsky.org

تؤدي المبادرة المحورية إلى جعل فصول السنة أكثر تطرفًا في أحد نصفي الكرة الأرضية من الآخر، إذ يكون الصيف أشد حرارة والشتاء أكثر برودة في أحد الأنصاف مقارنة بالاعتدال في النصف الآخر. ويظهر تأثير عامل المبادرة المحورية عندما يتزامن مع ما يسمى بالـ (Orbital Precession) أو «المبادرة المدارية» للكوكب حول الشمس؛ أي تأرجح نقاط الحضيض والأوج للكوكب مع التغيير الحاصل لمداره حول الشمس.

يعني هذا أنه عندما يشير محور الأرض نحو الشمس في ذات وقت وجود الأرض في نقطة الحضيض، فهذا يجعل أحد نصفي كوكب الأرض معرضًا لكمية أكبر بكثير من الإشعاع الشمسي عن نظيره. حاليًا تكون الأرض في حضيضها عندما يكون فصل الصيف في نصف الكرة الجنوبي (في شهر يناير)، ما يعني بالتبعية أن شتاء نصف الكرة الجنوبي يحدث بينما تكون الأرض في نقطة الأوج. ولهذا فإن نصف الكرة الجنوبي يتمتع بصيف أكثر حرارة وشتاء أكثر برودة عند مقارنته مع نظيره.

يتغير هذا الأمر مع مرور السنين، حيث تكتمل دورة المبادرة المحورية كل 26 ألف عام، فبعد بضعة آلاف من السنين سيتبدل وضعَا نصفي الكرة الأرضية؛ فيقع صيف النصف الشمالي وقت وقوع الأرض في الحضيض ويقع شتاؤه وقت وقوع الأوج.

وقد يؤدي التزامن بين المبادرة المحورية والمدارية إلى وقوع الحضيض في فصل الربيع أو الخريف، عندها يعتدل فصلا الشتاء والصيف في نصفي الكرة على حد السواء.

عندما تعمل جميع العناصر السابق ذكرها سويًا، إضافة إلى دورات نشاط الشمس وبعض المتغيرات الأخرى في الفضاء، نرى التأثيرات الجذرية لقوى الطبيعة على المناخ التي حدثت وستحدث لملايين السنين.

لا يربط تأثير ميلانكوفيتش التغير المناخي الحادث في عصرنا الحالي بحركات الأرض والشمس. بل في الواقع، ووفقًا لحساباته، من المفترض أن تكون هذه فترة برودة وانخفاض لمتوسط درجات حرارة الأرض، هذا إذا ما استبعدنا نشاطات الإنسان بالتأكيد. نحن -البشر- رغم إقامتنا القصيرة، نشهد ما يمكن اعتباره أكثر الفترات استقرارًا في تاريخ الأرض المناخي، ومع ذلك تمكنّا من تخريب هذا النظام الدقيق الأزلي باستهلاك موارد الكوكب وعدم مراعاة العواقب الوخيمة لأنشطتنا الاستهلاكية، فأصبحت رحلتنا القصيرة تلك جحيمًا لنا ولكوكبنا الوحيد.

المراجع

https://climate.nasa.gov/news/2948/milankovitch-orbital-cycles-and-their-role-in-earths-climate/#:~:text=Precession%20%E2%80%93%20As%20Earth%20rotates%2C%20it,the%20equator%2C%20affecting%20its%20rotation.

https://www.bgs.ac.uk/discovering-geology/climate-change/what-causes-the-earths-climate-to-change/#:~:text=The%20Earth’s%20orbit,-The%20Earth’s%20orbit&text=When%20the%20Earth%20is%20closer,%2C%20is%20called%20’eccentricity’.

https://scied.ucar.edu/learning-zone/how-climate-works/why-does-climate-change

https://geo.libretexts.org/Bookshelves/Oceanography/Oceanography_101_(Miracosta)/09%3A_Ocean_Circulation/9.14%3A_Ice_Ages_of_the_Pleistocene_Epoch

https://www.whoi.edu/oceanus/feature/are-we-heading-toward-another-little-ice-age/

https://www.nhm.ac.uk/discover/how-did-the-moon-form.html

https://camelclimatechange.org/camel/milankovitch_cy.html

https://climate.nasa.gov/explore/ask-nasa-climate/2949/why-milankovitch-orbital-cycles-cant-explain-earths-current-warming/


اظهر المزيد

شروق عبد الحكيم

شروق عبد الحكيم. كاتبة محتوى علمي. تخرّجت في كلية طب الأسنان عام 2022. تهتم بالعلوم والفلك بصفة خاصة وبتبسيطهما لغير المتخصصين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى