قراءة في رحلة صناعة السيارات بالهند – الجزء الثاني

بقلم: سامى فاضل

في المقال السابق تحدثنا عن الأطر السياسية المختلفة المحيطة بصناعة السيارات في الهند عقب استقلالها وحتى عام 2016 وفقًا لما شرحه الباحث الهندي «جيتندرا سينغ» (Jitendra Singh) «الشركات العالمية وصناعة السيارات الهندية» (Global Players and the Indian Car Industry) ونتابع في هذا المقال تأثيرات هذه السياسات المختلفة على توطين وتطوير تكنولوجيا صناعة السيارات في الهند.

المرحلة 1947-1980:

في هذا الإطار قام الباحث الهندي بدمج المرحلتين 1947-1965 و1966-1980 معًا لاشتراكهما في السياسات الحمائية التي اتبعتها الهند بشكل كبير، ولذلك قام الباحث بتناولهما كمرحلة واحدة مع فارق طفيف في المرحلة الثانية 1966-1980 حيث ازدادت التحديات أمام صناعة السيارات الخاصة بسبب تصنيفها كسلعة رفاهية كما أوضحنا سابقًا.

نظرًا للإجراءات الحمائية التي تبنتها الهند في الفترة 1947-1980، نتجت ميزات تنافسية للشركات المحلية، وبالفعل نجحت عدة شركات في هذه الفترة في إنتاج وتصنيع سيارات بمكونات محلية تصل إلى 90% من المكونات الكلية للسيارة، ولكن بعد ذلك أصاب هذه الشركات جمود كبير ولم تطوّر صناعة السيارات أو تصدر أي أنواع جديدة من السيارات، فوصلت الهند إلى العام 1980 بنفس طراز السيارات التي أنتجتها في خمسينات القرن.

يرجع السبب في ذلك بشكل كبير إلى لإطار السياسي الحمائي الذي قضى على أي تنافس في السوق المحلية، فمع منع استيراد السيارات أو السماح للشركات الأجنبية بدخول السوق المحلية، لم تكن هناك أي منافسة مع الشركات العالمية، وبسبب سياسة التراخيص التي حددت الحكومة الهندية بموجبها أنواعًا معينة من السيارات تنتجها كل شركة، لم تكن هناك كذلك أي منافسة محلية بين الشركات الداخلية ولهذا السبب افتقرت الشركات المحلية للحافز لتطوير نفسها، ففضلًا عن طرح نفس نوع السيارات -مع اختلاف بسيط في الشكل الخارجي- لمدة ثلاثة عقود كان إنفاق هذه الشركات على وحدات البحث والتطوير التابعة لها يتراوح بين 0.5-1% من نسبة مبيعاتها وذلك مقارنة بنسبة 3:5% التي تمثل حجم إنفاق الشركات العالمية من نسبة مبيعاتها في نفس الفترة. لا بد من التنويه هنا أنه على الرغم من التخلف التكنولوجي للسيارات المصنعة في الهند مقارنة بمثيلاتها في السوق العالمية، إلا أن السيارات الهندية كانت عالية الثمن أيضًا بسبب السياسات الاحتكارية للشركات الهندية والارتباط بين رجال الأعمال وصناع القرار، مما أدى إلى بقاء العرض أقل من الطلب بشكل كبير، وكان هذا من بين عوامل أخرى ساعدت على ارتفاع سعر السيارات.

مما طرحه الكاتب يبدو أن السياسات الحمائية نجحت في إنتاج صناعة سيارات محلية، إلا أنها أخفقت في توطين أنشطة بحث وتطوير التكنولوجيا التي لا بد منها لتحقيق كفاءة أعلى وتوليد القدرة على المنافسة العالمية.

المرحلة الثالثة 1981-1990:

كما أوضحنا سابقًا، خُفِّفت الإجراءات الحمائية في هذه المرحلة وكان الدفع باتجاه زيادة التنافسية. ومن بين أهم الأحداث في هذه الفترة، محاولة الحكومة بنفسها دفع صناعة السيارات إلى لأمام عن طريق طرح شركة سيارات تابعة للقطاع العام وعمل شراكة مع شركة «سوزوكي» اليابانية المعروفة حينها بقدراتها العالية في صناعة السيارات الصغيرة. وقد منحت الحكومة الهندية هذه الشركة والشراكة الجديدة بعض الميزات التنافسية؛ فسمحت لها بالاستحواذ على حصة كبيرة من السوق المحلية بسرعة كبيرة، وكان من ضمن الاتفاق أن تقوم شركة «سوزوكي» بتوريد تكنولوجياتها المتطورة وتسريع سرعة تصنيع سيارات متطورة تكنولوجيًا على أن تزيد نسبة المكون المحلي تدريجيًا، حتى وصلت إلى 65% بحلول عام 1990 مقارنة بـ 95% وهي النسبة المستهدفة. وفي ظل القدرات العالية للشركة الجديدة، وحين سنحت الفرصة، سارعت شركات رجال الأعمال القديمة -التي لم تسعَ إلى تطوير تكنولوجياتها سابقًا- لعقد شراكات مع شركات عالمية للمحافظة بسرعة على حصتها السوقية، ونتيجة لذلك قامت هذه الشركات باستيراد تكنولوجيات جاهزة متقدمة بكثافة، وانخفضت نسبة المكون المحلي في سياراتها إلى 47%.

كان العنصر الغالب في هذه الفترة هو استيراد التكنولوجيا بشكل مكثف، وجاء ذلك بالطبع على حساب تطوير القدرات التكنولوجية داخليًا حيث انخفض الإنفاق على البحث والتطوير الداخلي إلى نسبة ضعيفة جدًا مقارنةً بنسب استيراد التكنولوجيا، التي وصلت في بعض الأحيان إلى 26% أو أكثر من إجمالي نسبة المبيعات. والجدير بالذكر هنا أن المنافسة في هذه الفترة كانت محلية فقط ولم تسمح الحكومة الهندية بدخول الشركات العالمية أو بالحصول على نسبة ملكية عالية في أي من اتفاقات الشراكة، الأمر الذي تغيّر في الحقبة التالية.

المرحلة الرابعة 1991-2016:

كما أوضحنا في المقال السابق شهدت هذه الفترة في الهند سياسات انفتاح واسعة كانت تأمل الحكومة من خلالها أن تصنع من الهند قاعدة لصناعة السيارات الصغيرة في العالم وتنشيط أنشطة البحث والتطوير بجذب الشركات العالمية وإقناعها ببدء عمليات إنتاج وبحث وتطوير على أرضها والتصدير لبقية العالم.

يقول المؤلف أن الحكومة الهندية نجحت بالفعل في جذب عدد كبير من الشركات العالمية لفتح شركات محلية تابعة لها بنسبة ملكية 100% مثل شركات «هوندا» و«تويوتا» و«جنرال موتورز» و«فورد» و«هونداي». ونظرًا لاشتعال المنافسة الشديدة قامت هذه الشركات بإصدار أنواع عديدة متطورة من طُرُز مختلفة للسيارات، وكانت نسبة الإنفاق على الحصول وتطوير التكنولوجيا المتطورة عالية كنسبة من المبيعات. لكن يحذّرنا المؤلف من النتائج التي يمكن أن نصل إليها إذا نظرنا إلى الأرقام الكلية، فينظر إلى إحصائيات الشركات عن قرب ليجد أنه على الرغم من ارتفاع الإنفاق للحصول على التكنولوجيا، إلا أن هذا الإنفاق كان يذهب معظمه لاستيراد المكونات والآلات عالية التقانة بشكل مباشر وغير مباشر، أما أنشطة البحث والتطوير الداخلي فكانت متواضعة جدًا بنسبة 0.3% مقارنة بنسبة 2-7% من إنفاق الشركات الأم على أنشطة البحث والتطوير كنسبة من المبيعات.

يخلص الكاتب في استنتاجه إلى أن سياسة الانفتاح وإن نجحت في جذب الكثير من الشركات العالمية، إلا أنها لم تنجح في زيادة أنشطة البحث والتطوير المحلية، بل على العكس يحذر المؤلف من استمرار مثل هذه السياسات دون تدخل من الحكومة، فقد تؤدي إلى تآكل القدرات والخبرات التكنولوجية التي اكتسبتها الهند خلال العقود الماضية، بل والأكثر من ذلك أنها تؤثر سلبًا على ميزان المدفوعات الهندي كما سنرى في المقال التالي!

المصادر:

Singh, J., 2018. Global players and the Indian car industry: Trade, technology and structural change. Routledge India.

اظهر المزيد

سامي فاضل

مهندس كهرباء ومهتم بالمعرفة العامة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى