قراءة في رحلة صناعة السيارات بالهند - الجزء الأول

بقلم : سامي فاضل

أهلًا بك صديقي القارئ في هذه السلسلة من المقالات، حيث سنذهب معًا في رحلة سريعة نستكشف فيها أحد الكتب عن صناعة السيارات في الهند، وأعتقد أنه مهم لعدة أسباب، منها: أنه بحث علمي يغطي محاولة دولة نامية -مثل الهند- إنشاء صناعة محلية في أحد مجالات الصناعات الثقيلة مثل صناعة السيارات، والسبب الآخر أن الكتاب «الشركات العالمية وصناعة السيارات الهندية» (Global Players and the Indian Car Industry) يغطي فترة زمنية طويلة نسبيًا؛ منذ استقلال الهند عام 1947 وحتى عام 2016. والكتاب مُدعّم بالكثير من الإحصائيات التي استخدمها المؤلف في التحليل، مما يساعد على تكوين رؤية وفهم أفضل. الكتاب هو امتداد لدراسة دكتوراة للباحث الهندي «جاتيندر سينغ» (Jatinder Singh) الذي أتمنى أن يسامحني إن أخطأت في تهجي اسمه!

يحاول «سينغ» في كتابه الذي امتد عبر 234 صفحة مُوزّعةً على تسعة فصول أن يجيب على سؤالين أساسيين هما: هل نجحت الهند في توطين صناعة سيارات متقدمة تكنولوجيًا، وتحديدًا السيارات الخاصة؟ وما تأثير صناعة السيارات على ميزان المدفوعات الهندي؟ وأثناء التعرض لهذين السؤالين، يحاول الكتاب أن يبحث فيما إذا كانت الاستثمارات الأجنبية قد ساعدت في هذا الأمر وكيف كانت مساعدتها.

في السؤال الأول، يحاول المؤلف أن يعرض أين وصلت صناعة السيارات الخاصة في الهند، والسؤال هنا لا يعني خطوط التجميعٍ فقط، بل القدرات التصنيعية للمكونات المختلفة التي تستخدم في صناعة السيارات. ولا تقل أهمية عن ذلك، قدرات الإنتاج التكنولوجية المحلية، فهل تقوم مصانع السيارات في الهند بإنتاج تكنولوجيات متطورة محليًا عن طريق وحدات البحث والتطوير، أم أن التكنولوجيا المتقدمة مبنية على استيراد المكونات التكنولوجية الأساسية؟
أما عن السؤال الثاني، فيحاول الباحث أن يحلل كيف أثرت صناعة السيارات داخل الهند على التدفقات النقدية، هل التدفقات النقدية الناتجة عن تصدير السيارات، والقطع المختلفة الداخلة في صناعتها، أكبر من تلك الناتجة عن الاستيراد أم العكس؟

في محاولته الإجابة على هذه الأسئلة، قسَّم الباحث الفترة الزمنية الطويلة إلى أربعة مراحل وفقًا للسياسات المُتبناة من الحكومة الهندية فيما يخص صناعة السيارات التي تفاوتت كثيرًا خلال الفترة محل الدراسة. في كل مرحلة يقوم الكاتب بدراسة أهداف الحكومة الهندية من وراء تلك السياسات المختلفة وكيف انعكس ذلك على قدرات البحث والتطوير والقدرات التصنيعية المحلية، فضلًا عن ميزان المدفوعات. للوصول إلى إجابات في كل مرحلة، حلل الكاتب البيانات المختلفة المنشورة عن مُصنِّعي السيارات الهندية التي تفاوتت حصتها السوقية من مرحلة إلى أخري.
في هذا المقال الأول، نعرض نظرة عامة على الأطر السياسية المختلفة التي تبنتها الحكومة الهندية وأهدافها، ولاحقًا سنعرض التأثيرات المختلفة لهذه الأطر السياسية.

المرحلة الأولى 1947 – 1965:

في هذه الفترة تبنت الحكومة الهندية إجراءات حمائية شديدة بهدف دعم وتنمية الصناعة المحلية حيث فرضت قيودًا شديدة على تواجد الشركات الأجنبية، ورفعت التعريفات الجمركية. كان الغرض من ذلك منح ميزة تنافسية للشركات الهندية الصاعدة حيث منعت الحكومة الهندية استيراد السيارات الكاملة نهائيًا، ثم بعد فترة خيَّرت مصانع التجميع بين أن تبدأ في عمليات التصنيع المحلية تدريجيًا، أو أن تخرج من السوق الهندية. وبغرض خلق تكنولوجيا متقدمة أنشأت الحكومة عدة مراكز أبحاث قومية، واستحدثت وزارة البحث العلمي والشئون الثقافية، كما شجعت الحكومة على إقامة شراكات تقنية بين الشركات المحلية وبعض الشركات العالمية عن طريق وضع حوافز بغرض تسريع وتيرة التصنيع وإنشاء التكنولوجيا محليًا. وفي منتصف الخمسينات دفعت الحكومة لرفع نسبة المكون المحلي في السيارات من 50% إلى 80%. لم يتوقف الأمر عند ذلك، بل تدخّلت الحكومة بشكل مباشر في نوعية السيارات المُنتَجة، وعددها، وسياسات التسعير، وذلك عن طريق إصدار تراخيص محددة للشركات المصنعة. كل ذلك بغرض إنشاء قدرات تصنيعية وتكنولوجية محلية.

المرحلة الثانية 1966 – 1980:

وهي الفترة التي شهدت فيها الهند نقصًا شديدًا في الاحتياطي الأجنبي نتيجة عدة عوامل تناولها الكتاب، وتبعت ذلك قيود شديدة على صناعة السيارات، حيث حاولت الحكومة توجيه مجالات الإنفاق التي تتطلب النقد الأجنبي، وقسَّمت القطاع الصناعي إلى تصنيفات مختلفة، وقد صُنِّف قطاع تصنيع السيارات الخاصة تحت بند صناعات الرفاهية، ولذلك تأثر قطاع الشركات التقنية المعنية بصناعة السيارات الخاصة سلبًا نتيجة هذه السياسات. في نفس الإطار حاولت الحكومة تسريع وتيرة توطين التكنولوجيا فأعطت بعض التحفيزات الضريبية وسرَّعت وصول بعض الشركات التي لديها وحدات بحث وتطوير إلى المواد الخام.

المرحلة الثالثة 1981 – 1990:

في هذه المرحلة وُجِّهت البيئة والسياسات المحيطة للتخفيف من عجز الميزان التجاري عن طريق زيادة الصادرات، ولذلك دفعت الحكومة في اتجاه زيادة المنافسة في السوق المحلية بغرض الدفع في اتجاه التطوير وزيادة القدرة المحلية على المنافسة العالمية. في هذه الفترة، أُعيد تصنيف صناعة السيارات كأحد الصناعات المركزية للهند وخُفِّفَت القيود على الشركات المحلية ليكون لها القدرة على زيادة إنتاجها وتصنيع أكثر من نوع من السيارات في تصنيفات معينة، بعد أن كان كل مصنع مرخصٌ له بإنتاج نوع واحد من السيارات. كما شجعت الحكومة على الدخول في شراكات تقنية مع الشركات العالمية بهدف تسريع وتيرة تطوير التكنولوجيا المحلية وجعلها قادرة على المنافسة العالمية.

المرحلة الرابعة 1991 – 2016:

في هذه الفترة، أدخلت الحكومة الهندية تعديلات جوهرية في سياستها الاقتصادية والصناعية حيث حررت الاقتصاد وألغت غالبية الإجراءات الحمائية التي وضعتها في الثلاثة عقود الأولي بعد استقلالها، وسمحت للشركات الأجنبية بالدخول في السوق المحلية دون أي قيود، ورفعت القيود الخاصة باستيراد المواد الخام والتكنولوجيا. كانت الحكومة الهندية تأمل أن تصنع من الهند قاعدة صناعية لصناعة السيارات في العالم عن طريق جذب الشركات العالمية وإقناعها ببدء عمليات إنتاج على أرضها والتصدير لبقية العالم، ولتشجيع تطوير تكنولوجيا محلية وضعت الحكومة عددًا من الحوافز للشركات الموجودة على الأراضي الهندية، التابعة للشركات التي تحتوي على وحدات بحث وتطوير.

إلى هنا ينتهي هذا المقال ولاحقًا سنكمل رحلتنا مع الباحث وتفسيره لتأثير تلك الأطر السياسية المختلفة على عملية توطين الصناعة المحلية للسيارات وتطوير قدرات تكنولوجية داخلية.

المصدر:

Singh, J., 2018. Global players and the Indian car industry: Trade, technology and structural change. Routledge India.



اظهر المزيد

سامي فاضل

مهندس كهرباء ومهتم بالمعرفة العامة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى