تاريخ اكتشاف الإنسولين

بقلم: د. سارة أحمد

في بردية طبية تدعى «بردية إيبرس» (Ebers Papyrus)، يعود تاريخها إلى عام ١٥٥٢ قبل الميلاد كُتب توصيف لمرض السكر بأعراضه المعروفة اليوم، وهو ما يشير إلى قِدم مرض السكر ربما بقِدم الإنسان! ولعلنا بذلك ندرك أهمية اكتشاف الإنسولين وكيف كان حدثًا مضيئًا، عانت البشرية قبله طويلًا من مرض عُضال يقود صاحبه إلى الموت السريع.

خطوات العلماء التي قادت البشرية إلى اكتشاف الإنسولين

اكتشاف الإنسولين لم يكن وليد اللحظة ولا محض صدفة، وإنما هو رحلة طويلة تراكمت فيها جهود الباحثين وتجاربهم، ولعل أولى تلك الخطوات ترجع إلى عام ١٨٦٩، حيثُ اكتشف طالب الطب الألماني «بول لانجرهانز» (Paul Langerhans) مجموعة من الخلايا داخل البنكرياس عُرفت باسمه فيما بعد «جزر لانجرهانز» (lslets of Langerhans)، جاء بعده الطبيبان الألمانيان «أوسكار مينكوفسكي» (Oscar Minkowski)، و«جوزيف فون ميرينغ» (Joseph Von Mering)، ليؤكدا على وجود علاقة بين خلايا البنكرياس ومرض السكر، حيثُ لاحظا تجمع الذباب حول بَول كلبٍ قاما سابقًا بإزالة البنكرياس الخاص به لدراسة تأثيراته على عملية الهضم، وأشارت هذه الملاحظة إلى وجود سكر بالبول -العرض المميز لمرض السكري-، وهو ما يعنى ارتفاع مستوى السكر بدم الكلب، وإصابته بمرض السكري فور إزالة البنكرياس، وقد تم ذلك في عام ١٨٨٩.

«لكن، كيف تؤثر خلايا البنكرياس على مستوى السكر بالدم؟ هل تُنتج تلك الخلايا مادة هي المسؤولة عن التمثيل الغذائي للكربوهيدرات؟ فيرتفع سكر الدم بغيابها، وينخفض بوجودها؟»

كان ذلك ما افترضه الطبيب الأمريكي «يوجين أوبي» (Eugene Opie) في عام ١٩٠١، حيثُ اكتشف أن «خلايا جزر لانجرهانز» تُنتج مادة معينة، وأن تدمير هذه الخلايا يؤدي إلى الإصابة بالسكري. وقد ساهمت الخطوات السابقة في تمهيد الطريق للعلماء لمحاولة البحث عن علاج لمرض السكري، وفتحت مجالًا لمحاولاتٍ انتهت بعد ذلك بنجاحٍ باهر.

محاولات العلماء لعلاج مرض السكري

في أوائل القرن العشرين كانت هناك جهود حثيثة من العلماء لحل لغز مرض السكري، ومحاولة إيجاد الحلول لعلاج ذلك المرض، ومن ضمن تلك المحاولات ما كان من الطبيبين الأمريكيين «فريدريك ألين» (Frederick Allen) ، و«إليوت جوسلين» (Elliott Joslin) حيث أوصى الطبيبان بالصيام واتباع أنظمة غذائية مبنية على تحديد السعرات الحرارية كوسيلة لتقليل مستوى السكر بالدم، بحيثُ يُقلل المرضى من تناول الأطعمة الغنية بالسكريات والنشويات، ويخسر المصابون بالسمنة الكثير من أوزانهم. وقد أسفرت هذه التوصيات عن تحسن ببعض العلامات الحيوية المصاحبة لمرض السكر مثل:

  • انخفاض مستوى السكر بالبول.
  • انخفاض بمعدل حمضية الدم.
  • انخفاض بمعدلات الغيبوبة.
  • تأخر موت الأطفال المصابين بالنوع الأول من مرض السكر.

ولما كان هناك تحسن ملحوظ، لم يكن تحسنًا كاملًا، فما زال الأطفال يموتون، والكبار يعانون من مضاعفات المرض، فاتجه العلماء إلى تطوير عقار يعمل على تقليل مستوى الجلوكوز بالدم، وعدم الاكتفاء بحلول الأنظمة الغذائية، واعتمد العلماء في محاولاتهم على الفرضية التي توصل إليها «يوجين أوبي»، والتي تفيد بإفراز البنكرياس لمادة تلعب دورًا أساسيًا في التمثيل الغذائي للكربوهيدرات. وعلى إثر ذلك، وفي عام ١٩١٦ قام البروفيسور الروماني «نيكولاي بوليسكو» (Nicolae Constantin) بتطوير مستخلص من بنكرياس الكلب، واستخدامه في علاج كلاب مصابة بالسكري، وقد أسفرت النتائج عن ملاحظة انخفاض مستوى السكر بدم الكلاب المصابة، ولكنه لم يتمكن من إكمال تجاربه أو نشر أي دليل على نتائجها حتى وقت لاحق، وذلك بسبب اندلاع الحرب العالمية الأولى.

وتكررت هذه المحاولة مرارًا فقد قضى الكثير من العلماء سنوات عديدة في محاولة استخراج تلك المادة التي يُفترض أنَّ لها دورًا في ضبط مستوى السكر بالدم، ولكن باءت أغلب هذه المحاولات بالفشل نتيجة لوجود شوائب بالمستخلص، أو حدوث سمية بسببه، أو حتى ضعف الإمكانيات التي أجبرت الباحثين على الانقطاع عن مواصلة العمل، أو بسبب الحروب كما أشرنا سابقًا.

أخيرًا.. نجاحٌ في استخلاص الإنسولين

وفي مساء يوم من أيام العام ١٩٢٠، كان الجراح الكندي  «فريدريك بانتنج»   (Frederick Banting)  يُعدّ محاضرة يلقيها على طلابه في الجامعة صباح اليوم التالي عن التمثيل الغذائي للكربوهيدرات، الأمر الذي تطلب منه تحضيرًا مكثفًا لكونه بعيدًا نوعًا ما عن اختصاصه باعتباره جرّاح عظام، وأثناء ذلك، قرأ الجرّاح عن علاقة «جزر لانجرهانز» والمادة التي تُفرزها بمرض السكري، وأسفر ذلك عن توصله إلى فكرة فصل «خلايا جزر لانجرهانز»، بما يجعل استخلاص الإنسولين منها ممكنًا، كانت الفكرة التي توصل إليها «بانتنج» بمثابة حل لمشكلة كانت تقضي بفشل جميع محاولات استخراج الإنسولين، حيث يحتوي البنكرياس -إلى جانب «جزر لانجرهانز»- على خلايا أخرى تقوم بإفراز إنزيمات هاضمة، ووجود تلك الإنزيمات في مستخلص البنكرياس يقضي على الإنسولين الذي يحاول العلماء استخراجه باعتباره بروتينًا يتكسر بإنزيمات الهضم!

وتتلخص فكرة «بانتنج» في ربط قناة البنكرياس لأحد الكلاب بطريقة تؤدي إلى موت الخلايا المنتجة للإنزيمات الهاضمة، والمحافظة على «خلايا جزر لانجرهانز» حية، ويقوم بعدها باستخلاص الإنسولين وتنقيته وحقنه للكلب بعد إصابته بمرض السكري، ومن ثم تسجيل قراءات مستوى السكر بدم الكلب قبل وبعد إعطائه المستخلص.

واجه «فريدريك بانتنج» عقبة كبيرة، إذ باعتباره جراحًا فإنه سيقوم بفصل الخلايا لكنه لن يستطيع تنفيذ الجزء الخاص باستخلاص الإنسولين، كما أنَّه لا يملك الأدوات اللازمة لإجراء تجاربه ولهذا كان من الضروري طلب المساعدة، فعرض الأمر على أستاذ ورئيس قسم علم وظائف الأعضاء بجامعة تورنتو «جون ماكليود» (John Macleod) ، الذي شكك في بادئ الأمر في قدرة «بانتنج» على تحقيق ما عجز عن تحقيقه كبار العلماء، ولكنه في نهاية الأمر منحه مختبرًا، و١٠ كلاب لإجراء التجارب وطلب من أحد طلابه «تشارلز بست» (Charles Best)، البالغ من العمر آنذاك ٢٢ عامًا مساعدة «بانتنج» في أبحاثه التي اتفقا على أن تبدأ في إجازة الصيف، وقد وافق «تشارلز» بدوره على القيام بهذا العمل دون تقاضي أي أجر عليه.

بدأ الاثنان عملهما في السابع عشر من مايو لعام ١٩٢١، وقد وفر لهما «ماكليود» المتابعة والنصح والإشراف، وبحلول شهر سبتمبر كانا قد نجحا في استخلاص الإنسولين والذي أطلقا عليه آنذاك «أيسلتن»  (Isletin)، وقاما بحقنه وريديًا للكلب المصاب بالسكري جراء إزالة البنكرياس الخاص به، وأسفر ذلك عن انخفاض في مستوى السكر بالدم. وقد كررا هذه التجربة مرارًا للتأكد من أن الصدفة ليس لها دور في النتائج التي توصلا إليها، كما استخدما أنواعًا أخرى من الحيوانات في تجاربهما.

استخدام الإنسولين في علاج البشر

انضم إلى الفريق عالم الكيمياء الحيوية «ج. ب. كوليب» (J.B Colib)  للمساعدة في تنقية مستخلص البنكرياس ليكون صالحًا للاستخدام البشري، وفي الحادي عشر من يناير لعام ١٩٢٢ كانت المرة الأولى لحقن المادة التي استخلصها «بانتنج» و«بيست» في الجسم البشري، الذي كان لطفل مصاب يبلغ من العمر أربعة عشر عامًا ويُدعى «ليونارد تومسون»  (Leonard Thompson)، إلا أنها تسببت في حدوث خراج، ولم يكن لها أي تأثير على «زيادة الكيتونات بالدم» (Ketosis)، كما كان أثرها طفيفًا بالنسبة لخفض مستوى الجلوكوز بالدم وإخراجه بالبول الأمر الذي كان مخيبًا للآمال بشكلٍ كبير!

وكالعادة استمر الفريق في المحاولة وبذل «كوليب» قصارى جهده لتنقية المستخلص من الشوائب السامة، وجعله آمنًا للاستخدام، حتى أعادوا حقن الطفل في الثالث والعشرين من نفس الشهر، وجاءت النتائج مبشرة وفي أفضل صورةٍ ممكنة، فقد انخفض مستوى الجلوكوز بالدم إلى مستواه الطبيعي، واختفى من البول، كما اختفت الكيتونات من الدم، وبدا الطفل أكثر قوةً ونشاطًا، وقد منحه الإنسولين ثلاثة عشر عامًا أخرى من الحياة قبل أن يفارقها إثر إصابته بالالتهاب الرئوي، وكانت هذه هي المرة الأولى تاريخيًا التي نجح فيها العلماء في استخراج الإنسولين بصورة نقية قادرة على تحقيق نتائج فعالة في مجابهة المرض.

بعد ذلك، اقترح «ماكليود» تسمية المستخلص بـ «الإنسولين»  (Insulin)، وذلك باشتقاق هذا المصطلح من الأصل اللاتيني لكلمة (Islets) أحد مقطعي اسم الخلايا المنتجة للإنسولين، وتمت الموافقة على ذلك، وعُرف رسميًا بهذا الاسم منذ ذلك الوقت إلى يومنا هذا.

وفي عام ١٩٢٣ مُنح «بانتنج» و«ماكليود» جائزة نوبل في الطب أو الفسيولوجي، والجميل في الأمر أن «بانتنج» قام باقتسام جائزته مع بيست، واقتسم «ماكليود» جائزته مع كوليب اعترافًا بفضل كلٍ منهما في تحقيق هذا النجاح.

بعد ذلك بدأ فصل جديد في تاريخ الإنسولين؛ وهو محاولة إنتاجه بكميات كبيرة، وتمديد مدة فاعليته بحيثُ نتجنب حقن المريض به عدة مرات يوميًا وقد نجح العلماء في ذلك، واستمروا في أبحاثهم حتى أصبح الإنسولين عام ١٩٦٣ أول هرمون بشري يُخلَّق كيميائيًا.

تُعدّ قصة اكتشاف الإنسولين دليلًا ملهمًا على قدرة العلم على إنقاذ حياة البشر، ودليلًا محزنًا على ما قد يفعله الجهل بنا؛ فقد ظلت البشرية تعاني آلاف السنين من مرض يفتك بحياة الصغار والكبار فور إصابتهم به ويقف الأطباء عاجزون أمامه، فقط لأن أمر الإنسولين كان خفيًا عليهم!

لم تنته قصة الإنسولين بعد، فما زال هناك الكثير الذي يمكن تقديمه بشأن طريقة تناوله على سبيل المثال، والتي تُسبب ضررًا نفسيًا كبيرًا خاصةً للأطفال الصغار، إلا أن ما تم إنجازه إلى الآن يُعد ثورة علمية حافظت على حياة الملايين، ومنحت للأطفال الحياة بعد ما كان أمر موتهم محققًا.

المصادر:

1) Celeste C. Quianzon & Issam Cheikh (2012) History of insulin, Journal of Community Hospital Internal Medicine Perspectives, 2:2, DOI: 10.3402/jchimp.v2i2.18701

2) BUSS, M. (1993, December 31). The History of Insulin. DIABETES CARE, 16. https://diabetesjournals.org/care/article/16/Supplement_3/4/17164/The-History-of-Insulin

3) (2019, January 15). History of Insulin. Diabetes.co.uk. https://www.diabetes.co.uk/insulin/history-of-insulin.html

اظهر المزيد

سارة أحمد

صيدلانية وكاتبة محتوى، تخرّجت في كلية الصيدلة جامعة الأزهر عام ٢٠٢٠، مهتمة بعلم الأشكال الدوائية، ومجال الأدوية في الحمل والرضاعة، أعمل على أن يكون لي دور في تثقيف القارئ العربي في الشأن العلمي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى