أحجية الدماغ البشري

مقدمة:

 لا شك أن الدماغ البشري يوازي الكون في غموضه ويحتاج من يكتشف أسراره، ولا زال أمام العلماء أشواطًا طويلة في معرفة ماهية الدماغ. وعلى الرغم من التطور الهائل في آليات التصوير والتشريح، إلا أن هناك خبايا وأسرار لم تكتشف بعد، ولعلّك فكّرت يومًا ما كيف لقطعة يتراوح وزنها من 1.2 إلى 1.4 كجم أن تتحكم في سائر جسدك. فهي حقًا معجزة كبرى.

 في هذا المقال سنتناول كيف استطاع العلم فك بعض طلاسم الدماغ، والعلاقة بين الدماغ والأنشطة المختلفة، وما خفي أعظم!

 العلاقة بين الدماغ والذاكرة: قصة «هنري ملايسون» (Henry Molaison):

 في خمسينيّات القرن الماضي، أجرى «وليام سكوفيل» (William Scoville) -جرّاح أعصاب- عمليّة على دماغ شاب يُدعى «هنري ملايسون». فبعد ارتطامه في حادث، انقلبت حياة «هنري» رأسًا على عقب، حيث أصيب بتشنجات وإغماءات أرّقت حياته.

 في ذلك الوقت لم يكن العلم في أوج تطوره كما هي الحال الآن، فلم تكن وظائف الأجزاء المختلفة من الدماغ معروفة، وبدأ الطبيب في الجراحة واستأصل جزءًا يُعرف بـ «الحصين» (Hippocampus). بدت آثار العملية طيبة جدًا في البداية، حيث اختفت التشنجات، وتحسّنت الأعراض. إلا أن هذا التحسن لم يدم طويلًا، حيث صار الشاب عاجزًا عن تكوين ذكريات جديدة! فكان يأكل أكثر من مرة في اليوم لأنه ينسى أنه أكل، لكنه احتفظ بقدرته على تذكر أحداث بعيدة في الماضي.

 لكن -كما يُقال- رُبّ ضارةٍ نافعة! فحالة «هنري ملايسون» فتحت المجال لإعادة تعريف الذاكرة والفرق بين «الذاكرة طويلة المدى والذاكرة قصيرة المدى» (Long and Short Memory)، ومعرفة دور منطقة «الحصين»، والعلاقة بين المخ والذاكرة وغيرها من مجالات علم النفس.

 عاش «هنري ملايسون» لمدة 82 سنة، وهذا جعل دماغه الأكثر دراسة في التاريخ بعد أن أجرى 100عالم أعصاب الفحوصات عليه. ولا يزال دماغه محتفظًا به وتُجرى عليه الأبحاث. قضى «هنري ملايسون» حياته في نسيان الأشياء، إلا أنه ساعدنا في فهم الذاكرة وهذا سيظل عالقًا في ذاكرتنا.

 «ماذا بعد الموت؟» قصة يرويها الدماغ:

الموت هو الحقيقة الثابتة في الحياة الدنيا له أسراره وخفاياه التي لا يدركها عقل، وترى كل من حاول جاهدًا أن يخوض غمار ماهيّة الموتِ كان بحثه عن الحقيقة هباء منثورًا، ولعلّك دار في خاطرك يومًا ما «ماذا بعد الموت؟».

 فماذا لو اكتشف أن بعد موتك يبقى دماغك مستمرًا في عمله لمدة عشر دقائق؟

  لا يزال مفهومنا عن الموت وأسراره محدودًا جدًا، حيث يتم تشخيص الموت عندما يتوقف القلب عن العمل. ينقطع النفس ويتوقف القلب ويتجمد الجسد وتدنو الحياة من الموت، لكن هناك أكثر من ذلك.

 اكتشف العلماء أن الدماغ يستمرّ في عمله بعد موت القلب لمدة عشر دقائق. ففي لحظات ما قبل الموت يبدأ الدماغ في استقبال السيالات العصبية والكهرباء ويبدأ في خفض نسبة الأكسجين تدريجيًا حتى تنتهي الحياة، وتبقى في حالة وعي لمدة تتراوح بين ثانيتين وحتى عشر ثوانٍ بسبب القشرة المُخيّة (Cerebral Cortex) المسؤولة عن التفكير واتخاذ القرارات، لكن الجسم يفقد قدرته على الاستجابة العضليّة، ويبقى بينك وبين الرمق الأخير أنبوب أكسجين أو صاعق كهربائيّ أملًا في ضخ كميّة ضئيلة من الأكسجين إلى الدماغ. لكن خلايا الدماغ كلها في هذه اللحظة تكون في عداد الموتى، باستثناء خلايا الذاكرة (Memory Centre) التي تحوي المشاعر والذكريات، حيث تومض لحظات الحياة في ثوانٍ لا تكاد تذكر لتموت خلايا الذاكرة في النهاية وتكون آخر ما يرى النور قبل أن تنطفئ الحياة.

 استخدم بعض العلماء تقنية «رسم الدماغ الكهربائي» (EEG) خلال الدقائق العشرة بعد الموت، واكتشفوا اختلافات بين الأشخاص، وهذا لا يعني إلا أن كل شخص سيمر بتجربة فريدة لن يعرفها غيره بعد موته.

تأثير التحديق في العين على الوعي:

 هل تريد أن تنفصل عن الواقع وتنتقل إلى عالم اللاوعي لتكون هائمًا بين الموت والحياة؟ دعك من الوسائل البدائية كاستخدام المهلوسات كالكحول أو (LSD) أو الكيتامين وغيرها.

 في دراسة أجراها طبيب نفسيّ إيطالي عام 2015، أحضر 20 شخصًا في غرفة ذات إضاءة خافته ليبدأ كل اثنين منهما في التحديق في عين الآخر لمدة 10 دقائق. حكى الأشخاص المشاركون في التجربة أنهم شعروا بالانفصال عن العالم المحيط وتغيُّر في أشكال بعضهم البعض كأنهم في حلم أو ضباب، حيث بدا العالم مُشوّهًا وصار الزمن يسير ببطءٍ شديد. ولعلّك نظرت يومًا إلى عين شخص في مكانٍ يعجّ بالناس وشعرت بتوقف الزمن وكأن العالم اختفى من حولك.

 خاتمة:

 لا شك أن هناك رابطًا بين الدماغ وسائر البدن، حيث يتربّع الدماغ على قمة الجهاز العصبيّ كالعضو الأكثر غموضًا بدايةً من البنية الشكلية وعدد الخلايا، والخوض في أسراره والكشف عنها قد يحتاج إلى سنواتٍ طويلة تغطي تفاصيله بدءًا من كيمياء الدماغ والخلايا العصبية، مرورًا بمعرفة أجزاء الدماغ المختلفة، والبحث في وظائفها وعلاقتها بالنوم والوعي والذكريات والتفكير والشعور والتوتر والأمراض المختلفة كالفصام والذهان والألزهايمر والاكتئاب وغيرها. وقد تشهد السنون القادمة معرفة المزيد من خفايا الدماغ بعد التطور الهائل في مجالات التصوير والطب وغيرها.

المصادر:

/https://www.ncbi.nlm.nih.gov/pmc/articles/PMC6170042

/https://pubmed.ncbi.nlm.nih.gov/28231862

https://www.researchgate.net/publication/255790950_Surge_of_neurophysiological_coherence_and_connectivity_in_the_dying_brain

https://www.ncbi.nlm.nih.gov/pmc/articles/PMC2649674/

https://www.sciencealert.com/staring-into-someone-s-eyes-for-10-minutes-induces-an-altered-state-of-consciousnes

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى