ما لا تعرفه عن بيولوجيا صديقك

بقلم : سلمى عبداللطيف محمد

ربما تعجبت يومًا من علاقتك ببعض أصدقائك، وتسأل نفسك كيف أصبحنا على هذا القدر من التقارب؟ قد تكون ظننت أن معاملته الحسنة وأخلاقه الطيبة هي الدافع وراء انتقائك له. ربما يكون كذلك، ولكن فكر معي كم مرة تعرضت لموقف جعلك تتساءل كيف يوجد بيننا كل هذا التشابه؟ وكم مرة أخبرك شخص أنك وصديقك متشابهان إلى حد كبير؟ هذا هو السر يا عزيزي: «التشابه»! التشابه الذي يجعلكما تتشاركان الاهتمامات والموسيقى والأذواق وقد يصل الأمر في بعض الأوقات إلى أن تُظهِرَا نفس رد الفعل تجاه حدث معين فتبتسمان عجبًا لهذا التشابه. هذه ليست الصدفة فالسبب أعمق من كونه مجرد تشابهات ظاهرية، بل هي الجينات.

فما القصة؟

العالمان «جيمس فاولر» (James Fowler) و«نيكولاس كريستاكيس» (Nicholas Christakis) وضحا لنا القصة عام 2014، عندما وقعت تحت أيديهما بيانات ما يقارب 1932 شخصًا من مرضى القلب وكانت تشمل تفاصيل دقيقة حول علاقات هؤلاء المرضى وكانت المفاجأة عندما نظرا في المعلومات الوراثية التي تخص 1367 زوجًا من الأصدقاء، حيث وجدا أن هناك تشابهًا بنسبة 1% في هذه الجينات زيادة عن الأغراب، وإن كنت تفكر في أنها نسبة ضئيلة سأخبرك بأن هذه النسبة قد تكون هي نفس نسبة التشابه بينك وبين أبناء عمومتك من الدرجة الرابعة أي كأنك وصديقك من أصل واحد. وإن كنت تفكر أن هذه النسبة قد تكون لأسباب أخرى كالموطن وليست الصداقة فاطمئن لأن كل هؤلاء المرضى، الأصدقاء منهم والأغراب، كانا يتشاركان نفس الأصول الإيطالية، أي أن هذا التشابه الإضافي أساسه لن يكون الموطن لأن الأغراب كانوا أيضًا من موطن واحد.

ليس هناك جين معين يخص الأصدقاء، لكن بالتعمق أكثر في هذه الجينات يمكننا إيجاد التشابه اعتمادًا على نظرية «فاولر» و«نيكولاس» التي استهدفت جينات معينة على طول الجينوم البشري، فوجدا أن من ضمن التوافق قيد الدراسة التوافق في جينات حاسة الشم، وربما يكون هذا التوافق السبب في بدء الصداقات دون أن تشعر؛ فيدفعك حبك لرائحة القهوة أن تذهب إلى نفس المكان أنت وصديقك الخفي وتلتقيان هناك. نظرية «فاولر» و«نيكولاس» تشبه القول المأثور «الطيور على أشكالها تقع»، فيمكننا أن نقول الآن «الطيور على جيناتها تقع».

وجد العالمان كذلك أن هناك اختلافًا، إلا أن هذا الاختلاف متشابه بين أغلب الأصدقاء، حيث وجدا تضادًا في الجهاز المناعي، فإذا كنت عرضة لمرض معين فمن الصعب أن تنتقل العدوى لصديقك لاختلافه معك في الجهاز المناعي، وهذا ما يحقق التكامل بين الأصدقاء وقدرتهم على مساندة بعضهم البعض أوقات مرضهم.

لم تقف المحاولات في فهم هذه العلاقة لدى علماء الوراثة فحسب، بل كان أيضًا لعلماء الأعصاب دور هام، فاقترحت   «كارولين باركينسون» (Carolyn Parkinson) أن يظهر الأصدقاء نفس الاستجابات الدماغية للمؤثرات الخارجية، وكانت هذه أول دراسة للربط بين النشاط العصبي والعلاقات الاجتماعية، وبما أن استجاباتنا لبعض المؤثرات كالصور ومقاطع الفيديو تعبر عن طبيعة التفكير اللاإرادي لأدمغتنا، درست كارولين سلوك مجموعة من 280 طالبًا علاقاتهم الاجتماعية معلومة، وعرضت عليهم مقاطع فيديو متنوعة كوميدية وسياسية ودرامية وغيرها بنفس الترتيب، مع المراقبة تحت جهاز «الرنين المغناطيسي الوظيفي» (FMRI) وعند مقارنة النتائج بين المشاركين وجدت أن الأصدقاء يظهرون تشابهًا أكبر في الاستجابة لهذه المقاطع مقارنةً بغير الأصدقاء، حتى عند تغيير بعض المعايير الأخرى مثل العمر والجنس والجنسية ظلت النتائج في صالح الأصدقاء.

كانت هذه النتائج مذهلة، لكن اجتهادات هؤلاء العلماء لم تساعد في تحديد كيف تبدأ الصداقة. فكيف تشعر بالقبول تجاه شخص معين وترفض الآخر؟

افترضت دراسة حديثة نشرت في ديسمبر 2021 أن «إنزيم التحلل المائي الفوسفوديستريز» (The cAMP-Hydrolysing Enzyme/ Phosphodiesterase 11A/ PDE11A) هو المسؤول عن التفضيل الاجتماعي نظرًا لعدة أسباب منها أنه موجود في منطقة «الحصين البطني» (The Ventral Hippocampal) المسئولة عن التعاملات الاجتماعية، كما أن فقد هذا الإنزيم يؤدي إلى خلل في إنتاج هرمون «الأوكسيتوسين» (Oxytocin) وهو الهرمون المسؤول عن الشعور بالحب والقبول، وأخيرًا لكونه سببًا في الكثير من أمراض الاكتئاب والعزلة. ونظرًا لصعوبة تطبيق هذه التجارب على البشر وللبعد عن المشتتات الاجتماعية كالعنصرية والقرابة وغيرها من العوامل التي قد تقلل من جودة النتائج ولأن السلوكيات الاجتماعية قد تتوافر لدى الكثير من الكائنات الحية، أجريت هذه التجربة على الفئران، وعندما وُضِعَ فأر لديه «إنزيم التحلل المائي الفوسفوديستريز» (PDE11A) من النوع (WT) مع زميلٍ له من نوع إنزيم مختلف (PDE11A) (KO)، وفأر آخر جديد لكن لديه نفس النوع من «إنزيم التحلل المائي الفوسفوديستريز» (PDE11A) (WT) وُجِدَ أن الفأر فضّل الفأر الجديد الذي يحمل نفس نوع إنزيمه، على الفأر زميله من النوع المختلف، فربما يكون هذا الإنزيم هو السبب حقًا وراء اختيارنا الأصدقاء.

لكن في النهاية نحن لا نحتاج إلى الأدلة والبراهين كي نتأكد من مكانة هؤلاء الأصدقاء، يكفي تربيتهم على أكتافنا وقت ضعفنا فنحن مدينون بكل الشكر لهذه العلاقة السامية التي تجعلنا نحيا بشكل أفضل.

المصادر

1- Smith, A. J., Farmer, R., Pilarzyk, K., Porcher, L., & Kelly, M. P. (2021). A genetic basis for friendship? Homophily for membrane-associated PDE11A-cAMP-CREB signaling in CA1 of hippocampus dictates mutual social

preference in male and female mice. Molecular Psychiatry, 1-11.
2-Christakis, N. A., & Fowler, J. H. (2014). Friendship and natural selection. Proceedings of the National Academy of Sciences, 111(Supplement 3),

10796-10801.
3-Parkinson, C., Kleinbaum, A. M., & Wheatley, T. (2018). Similar neural responses predict friendship. Nature communications, 9(1), 1-14.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى