سمك الأنقليس: بين مطرقة المناخ وسندان المحيط

بقلم: فاطمة الزهراء عبد المجيد

هناك، عند جانب القمر المظلم

في دفق من البطارخ المتدافعة

تضع ثعابين البحر يرقاتها كعاصفة هوجاء

لا حصر للصغار الهائمين فيها على سطح الماء

وعلى قطرات زيوتها، تطفو الأجنة

على مياه العصر الوسيط، مثل ذرات الغبار

في طرفة عين تشتعل، وتتصاعد مع بريق الاحتراق

فيجمعها الضياء مع غذائها المُنجرف من الأعماق

هكذا عبر «ستيف إيلي» (Steve Ely) في مشهد بديع من قصيدته «سمك الأنقليس» (The European Eel) (1) عن عملية وضع أسماك الأنقليس ليرقاتها، ثم حصول اليرقات على غذائها، وكأنها تضيء في عتمة القمر.

الجدير بالذكر، أنَّ هذا المشهد الفريد لا يتكرر في حياة سمك الأنقليس، فالآباء تموت فور تكاثرها. وتبقى تلك اليرقات لتنال غذاءها وتشق طريقها إلى اليابسة، وفي رحلتها إلى السواحل القارية، تتعرض اليرقات للعديد من العوامل الطبيعية (المحيطية والمناخية) التي تؤثر على أعدادها وجودتها.

ناقشنا في المقال السابق المؤثرات البشرية التي أدت إلى تدهور أسماك الأنقليس، لكنها ليست كافية لتفسير مدى وتوقيت تناقص أعداده. ويمكن للتغيرات المناخية والمحيطية تقديم بعض الأسباب التي تفسر لنا تدهوره بشكل أوضح.

صورة.1 يرقة سمك الأنقليس بعد تفريخها بأربعة عشر يومًا، بطول ثمانية ملليمترات (14).

المؤثرات الطبيعية

  1. العوامل المحيطية

تتحرك اليرقات «حركة مدفوعة» (Passive Movement) وفق تيار المحيط (2). الذي يتأثر بدوره بـ «تذبذبات شمال الأطلسي» (North Atlantic Oscillation)، وهي مؤشر لفارق الضغط الجوي عند سطح البحر في المحيط الأطلسي الشمالي، بين المُرْتَفَع شبه المداري – «المُرْتَفَعُ الآَزوري» (The Azores High) – والمُنْخَفَض شبه القطبي – «المُنْخَفَضُ الأيسلندىّ‎« (The Icelandic Low) – (3).

وقد رُصِدت علاقة عكسية بين مؤشرات استقطاب ثعابين البحر في طورها الزجاجي وبين مؤشر تذبذب شمال الأطلسي (4). كما رُصِد انخفاض في نسبة اليرقات التي انجرفت عبر التيار الأطلسي الشمال شرقي إلى خطوط العرض الشمالية في أوروبا، حيث كانت النسبة قبل سبعينات القرن الماضي بين 60% و80%، بينما انخفضت بعد ذلك لتكون بين 40% و30% (2).

علاوة على ذلك، فإن تيارات المياه المدفوعة بالتغيرات في حركة الرياح تؤثر في حركة اليرقات، وبذلك تستغرق وقتًا أطول في هجرتها فيتأخر عبورها المحيطَ إلى السواحل القارية (4).

وفضلًا عن تأثيره على اليرقات، يؤثر تذبذب شمال الأطلسي على أعداد ثعابين البحر المهاجرة إلى التزاوج في طورها الفضيّ بسبب قلة الأمطار، ونتيجة لذلك ينخفض معدل تصريف الأنهار الذي تهاجر معه الأسماك (5)

ويُرجح بعض العلماء أنَّ السبب الرئيسي وراء تذبذب شمال الأطلسي هو اختلاف درجات الحرارة عند سطح البحر بالتوازي مع تغير المناخ القاري (4). ومن شأن الارتفاع في درجات الحرارة أن يُعرقل تزاوج الذكور والإناث في الربيع، وأن يثبط دورة العوالق البحرية لغذاء اليرقات، فيؤدي إلى تدهور «إنتاجية» ثعابين البحر (Productivity).

2. العوامل المناخية

إنَّ تغير المناخ كفيل بتغيير «الأنظمة المائية» (Hydrological Regimes) والحرارية للأنهار بدرجة حادة، وبذلك يُشكل عائقًا لمحطات رئيسية في حياة سمك الأنقليس (6). حيث تقضي أسماك الأنقليس بين 5 إلى 30 عامًا من حياتها في الأنهار والبحيرات منخفضة الملوحة في مرحلة نموها (6)، وتُحفزها درجات الحرارة عندما ترتفع عن 20 درجة مئوية (4) حتى تصل إلى اكتمال نضجها مع دخول الصيف.

وبعد ذلك تبدأ هجرتها نحو مصبات الأنهار، ومنها إلى «بحر سارجاسو» (Sargasso Sea) عندما تبدأ درجات حرارة المياه في الانخفاض (10-20 درجة مئوية) مع ارتفاع معدل «تصريف الأنهار» (River Discharge) في يوليو في الشمال من نطاقها الجغرافي، وفي أكتوبر في الجنوب منه (6). وقد أثبتت دراسة علمية مؤخرا أن أسماك الأنقليس لا تنجو عند البقاء لفترات طويلة في مياه درجة حرارتها  30 درجة مئوية (7). حيث تؤثر درجات الحرارة على الوظائف الحيوية لأسماك الأنقليس ومدى نضجها، بينما يُحفز معدل تصريف الأنهار هجرتها عبر «مستقبلات الحركة» (Mechanoreceptors) الموجودة على أطرافها، أو عبر الزيادة في «كَدَر المياه» (Turbidity) التي تشعر بها من خلال أعضائها الحسِّية (6).

صورة.2 سمكة الأنقليس في طورها الأصفر قبيل هجرتها إلى بحر سارجاسو (15).

فمثلًا، قد تكون الأسماك جاهزة حيويًا للهجرة، بينما يكون معدل التصريف غيرَ كافٍ لتحفيزها، وهنا يحدث عدم التوافق. وتبعًا لذلك، فحص مجموعة من العلماء في دراسة حديثة تأثيرَ هذين العاملين مجتمعين على هجرة أسماك الأنقليس عبر نهري «إمسا» (Imsa) (6)و«بوريشول» (Burishoole) في أوروبا اعتبارًا للتوافق بينهما – وفقًا لـ «مفهوم البيئة الملائمة» (The Ecological Niche Concept) (8) عبر ثلاث تصنيفات: «البيئة المتوفرة» (Available Niche) و«البيئة المفضلة» (Preferential Niche) و«البيئة الفعالة» (Effective Niche) (6).

واتضح لهم أن تغير المناخ عالميًا يؤثر على معدل الترسيب المحلي – «هطول الأمطار» (Precipitation) – وعلى سرعة الرياح، اللذين يؤثران بدورهما على درجات حرارة وتصريف الأنهار. إذ رصدوا زيادة في معدل تصريف النهرين خلال الخمسين عامًا الماضية. كما لاحظوا زيادة في معدل هجرة الأسماك عند درجات حرارةٍ تتجاوز 15 درجة مئوية.

وخلَصوا إلى أنه إذا استمر الاحترار العالمي في الزيادة على هذا النحو، فإنه من المتوقع ألا يحدث تزامن بين هجرة مجموعات أسماك الأنقليس في الشمال والجنوب من نطاقها الجغرافي، مما سيؤدي إلى تبعات كارثية تؤثر على بقاء هذا النوع المُهدد حاليًا بالانقراض(6).

وتتوافق تلك النتائج مع توقعات دراسةٍ أخرى بزيادةٍ في درجات حرارة المياه بمتوسط 2.4 درجة مئوية  بحلول عام 2050، ونتيجة لذلك حدوث تغيرات حادة في التدفق الطبيعي للأنهار، فضلًا عن الجفاف المتوقع لمنطقة حوض البحر الأبيض المتوسط (9).

المحافظة على ثعابين البحر من الانقراض

وفي سبيل الحفاظ على هذا النوع من الانقراض، ينبغي السير في مسارات متوازية ومُوَحدة من قبل الحكومات والأفراد وصُنَّاع القرار. فمثلًا، على الحكومات فرض سياسات تمنع إنشاء محطات كهرومائية في مسارات هجرة أسماك الأنقليس.

ومن بين مجمل وفيات أسماك الأنقليس نتيجة العوامل البشرية، يقع على عاتق تلك المحطات وزرُ 50% (10). خاصةً مع استطالة أجساد أسماك الأنقليس، فهي معرضة أكثر من الأنواع الأخرى إلى الوفاة جراء التوربينات الكهرومائية.

كذلك يجب على الحكومات أن تأخذ في الاعتبار تأثيرَ المشروعات التي من شأنها تجزئة مسارات المياه، خاصةً إذا كانت المياه عابرةً للحدود، لأنها ستؤثر على هجرة أسماك الأنقليس العابرة للمسار ككل (10).

علاوة على ذلك، فإنَّ أي إجراء يُتَخذ في بلد من البلدان، مثل بناء السدود، من شأنه أن يؤثر على النوع بأكمله إذا أخذنا في الاعتبار كونه نوعًا «يتزاوج عشوائيًا» (Panmictic Species). من المهم أيضًا العمل على حماية موائِله في المياه العذبة والحدّ من الصيد الجائر حتى يتم السماح بهجرة 40% على الأقل من مجموعات أسماك الأنقليس من المياه القاريّة، وفقًا للائحة رقم  EC 1100/2007 الصادرة عن الاتحاد الأوروبي (11).

يجب أيضًا تطبيق الحظر التام أو على الأقل الحد من الإتجار غير المشروع بهذا النوع، حيث يعمل ذلك على تقليل أعداده وإدخال الطفيليات إليه (12). ومن الضروري كذلك توصية الصيادين باستخدام أحجامٍ مناسبة من خطافات الصيد الكبيرة (رقم 11)، التي تحول دون الصيد العرضي لأسماك الأنقليس الصغيرة الزجاجية (13).

المصادر:

1. https://longbarrowpress.com/featured-poem/index/from-the-european-eel-steve-ely/

2. https://doi.org/10.1111/eff.12048

3. https://www.ncei.noaa.gov/access/monitoring/nao/

4. https://doi.org/10.1016/S0048-9697(02)00644-7

5. https://doi.org/10.1093/icesjms/fsv063

6. https://doi.org/10.1038/s41598-021-96302-x

7. https://doi.org/10.1093/conphys/cow027

8. http://dx.doi.org/10.1101/SQB.1957.022.01.039

9. https://doi.org/10.5194/hess-17-325-2013

10. https://doi.org/10.3390/su12208535

11. http://data.europa.eu/eli/reg/2007/1100/oj

12. https://doi.org/10.1016/j.gecco.2015.07.009

13. 10.21608/ejap.2018.93240

14. https://ecoidea.me/en/article/3983

15. https://www.cms.int/en/news/european-eel-remains-critically-endangered-latest-iucn-red-list

اظهر المزيد

فاطمة الزهراء عبد المجيد

أهتم بقضايا المناخ والبيئة وتأثيراتهما على الكائنات الحية، وكيفية استجابة الكائنات لتلك التأثيرات وتكيفها على المستوى الجزيئي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى