القلب والدماغ | رحلة اتخاذ القرار

بقلم:محمود أحمد عبد الوهاب

الدماغ

لا شك أن كثيرًا من الناس يعلمون أن أغلب أفعال الإنسان صادرة عن إشارات عصبية من جهازه العصبي المركزي (الدماغ والحبل الشوكي)، وأن الدماغ هو المسؤول عن إصدار الأوامر بالأفعال الإرادية وكثير من الأفعال اللا إرادية (كالتنفس وغيره)، بالإضافة إلى ردات الفعل الوقائية والتي تُعَدُّ مسؤولية الحبل الشوكي، لكنَّ حديثنا هنا عن الدماغ والأفعال المبنية على التفكير والإرادة واتخاذ القرارات، كتحريك طرف ما.

القلب

ولكن ما علاقة القلب الذي يُعَد مضخة الدم للجسم بهذا الأمر وما تأثيره على الدماغ؟ وهل هناك علاقة بين كيمياء الدماغ والقلب؟ كلنا يعلم أن القلب لطالما رمز في الفلسفات القديمة إلى العاطفة واتخاذ القرارات العاطفية، وقد تكون هذه القرارات مصيرية في كثير من الأحيان، فما موقف الطب والعلوم الحيوية من هذا الادعاء؟

العلاقة بين الدماغ والقلب

من المعلوم للجميع أن القلب مسؤول عن توزيع الغذاء والأكسجين في جميع أنحاء الجسد، لذا لا يمكن الاستغناء عن خدماته المهمة. ومما قد يدعو كثيرًا إلى الصدمة أن للقلب تأثيرًا على جميع أعضاء الجسم، ولكن هل يشمل تأثيرُه ذلك التأثيرَ على الدماغ والأفعال أيضًا؟

ما العلاقة؟

إن الدراسات المُجراة على القلب والدماغ في حالة من التطور المتسارع في هذا العصر، حيث تطورت آليات التشخيص والأشعة وقياس نشاط كافة أعضاء الجسد؛ فباستخدام الوسائل الطبية الحديثة أصبح من الممكن معرفة أي أجزاء الدماغ هي التي تنشَط عند التفكير في أمر معين.

وعن طريق هذه التقنيات، توصَّل باحثون إلى نشر ورقة بحثية بعنوان «نقص الوعي الإدراكي لدى مرضى قصور القلب»، حيث درسوا عددًا من مرضى قصور القلب خاصةً كبار السن منهم، وتوصلوا إلى أن كثيرًا منهم يعاني من ضعف الإدراك بما قد يصل إلى حد الهذيان، ونصحوا كثيرًا من الأطباء بعدم التسرع في الحكم على الهذيان بأنه مرض عصبي؛ فلربما يعود الأمر في الأساس إلى ضعف في القلب.

وتوصل البعض الآخر أيضًا إلى وجود علاقة بين أمراض القلب (مثل: ضعف عضلة القلب، أمراض ضغط الدم، تصلب الشرايين …) وحالات عصبية دماغية (مثل الخرف)؛ حيث وجدوا أن هناك علاقة بين المرضى المصابين بتصلب الشرايين وحالات الخرف، وكذلك حالات التخثرات الدماغية التي تؤدي إلى موت خلايا الدماغ المسؤولة عن عمليات مهمة (كالذاكرة، والنطق والكلام، والتحكم بالأطراف)، مما قد يؤدي إلى الإصابة بالشلل النصفي، أو العجز عن الكلام وثقل اللسان، أو نسيان أمور صعبة النسيان كأسماء الأقارب، وغيرها من الأمور.

من المعلوم أيضًا أن أمورًا مثل الضغط العصبي والإجهاد الفكري وبعض السلوكيات العصبية قد تسبب أمراض القلب، كضعف عضلة القلب والرفرفة الأذينية، ولكن هل من الممكن أن يحدث العكس؟ هل يمكن أن تؤثر صحة القلب على تصرفات الإنسان وشخصيته وسلوكه؟

أجرى عدد من الباحثين دراسة على 47 مريضًا في فيينا بالنمسا، خضعوا مسبقًا لعملية زراعة قلب، حيث سُئِل المرضى -خلال مقابلة معهم- عمَّا إذا لاحظوا تغييرًا في شخصيتهم بعد عملية زراعة القلب، فكانت النتائج كالتالي:

  •       ٧٩% من المصابين أفادوا بعدم حدوث تغير مطلقًا، لكن الغريب أن إجاباتهم كانت مصحوبة بشيء من الدفاع الإنكاري عن طريق تغيير الموضوع بسرعة، أو جعل السؤال يبدو سخيفًا بهدف عدم الإجابة عنه.
  •        ١٥% من المصابين أفادوا بتأثر شخصياتهم بعض الشيء، ولكنهم أرجعوا ذلك لتأثير حدث نقل القلب على حياتهم.
  •        ٦% (ثلاث حالات) من المصابين أفادوا بحدوث تغير جذري على شخصياتهم، وكان ذلك -في نظرهم- بسبب القلب الجديد.

كل هذه الإجابات جعلت الباحثين في حالة تساؤل عمَّا إذا كان القلب فعلًا مصدر العواطف والمشاعر والشخصية، أو أن الدماغ هو المسؤول عن هذا كله بحكم أن بعض الهرمونات المرتبط خروجها بالتعرض لمجموعة من المشاعر تُفرَز داخله، ومنها: «الدوبامين» هرمون المكافأة في الدماغ والمسؤول عن الشعور بالمتعة، وهرمون «الدَّرئين» أو «السيروتونين» الذي يُفرَز عند الإحساس بالسعادة.

ولكن في هذه النقطة تحديدًا تختلف الآراء العلمية؛ حيث يقول بعض الباحثين أن الهرمونات هي التي تؤثر على الحالة المزاجية الداخلية للمرء، بينما يصرح آخرون بأن الهرمونات تؤثر فقط على التعابير الجسدية -لا على المزاج نفسه- فتُفرَز بشكل متناسق مع أي تغيرات شعورية خارجية، حيث إن إفراز الدَّرئين لا يسبب السعادة بذاته، لكنه يُفرَز حين يتعرض الإنسان لموقف يسعده.

وبناءً على ما سبق ذكره، فمن الممكن أن يكون للقلب تأثير على القرارات المُتخذة ودوافعها، بل وعلى الشخصية ككل، لذا قد تتأثر أفعال مرضى القلب وسلوكياتهم (من حيث الاستجابة للأمور التي تجعلهم يغضبون ومدى تأثرهم بما يحزنهم) نتيجة مرضهم. ولذلك يُنصَح بعدم مؤاخذة مرضى القلب بكل ما يفعلونه، والاستعانة باختصاصيّي الأمراض العصبية والنفسية لتدريب الممرضين على طرق التعامل السلوكية الصحيحة مع المرضى في أقسام القلب.

وأخيرًا، يبقى السؤال الذي حيَّر آلاف العلماء والفلاسفة على مر التاريخ: هل العقل في القلب أم في الدماغ؟ هل عواطف الإنسان (كالحب، والكره، والغضب، والأسف، والاعتذار) نابعة من القلب أم من الدماغ؟ تُرى مَن المسيطر؟ أيكون مَن يحرك العواطف هو من يؤثر في اتخاذ القرار؟ أم مَن يتحكم في أعضاء الجسد؟ يبدو أن إجابة هذا السؤال لم تُكشَف بعد!

المصادر:

Leto, L., & Feola, M. (2014). Cognitive impairment in heart failure patients. Journal of geriatric cardiology : JGC, 11(4), 316–328.
https://doi.org/10.11909/j.issn.1671-5411.2014.04.007
Bunzel, B., Schmidl-Mohl, B., Grundböck, A., & Wollenek, G. (1992). Does changing the heart mean changing personality? A retrospective inquiry on 47 heart transplant patients. Quality of life research : an international journal of quality of life aspects of treatment, care and rehabilitation, 1(4), 251–256.
https://doi.org/10.1007/BF00435634
Annals of pharmacovigilance & drug safety – remedy publications. (n.d.). Retrieved June 11, 2022, from https://www.remedypublications.com/annals-of-pharmacovigilance-drug-safety-articles.php

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى