الذكاء الاصطناعي: تحديات ومخاوف

بقلم: زياد محمد

مرَّت على تاريخ البشرية ثورتان عظميان، غيرت كلتاهما من طريقة حياة الإنسان على الأرض. وقعت أولى الثورتين عندما اكتُشِف البارود في الصين مع بدايات القرن التاسع الميلادي؛ فكان سببًا في قيام دول وانهيار إمبراطوريات. أما الثورة الثانية، فقد كانت أوروبا -في أول الأمر- مسرحًا لأحداثها التي بدأت خلال القرن الثامن عشر الميلادي، وهي ما أُطلِق عليه مصطلح «الثورة الصناعية»، والتي تم تقسيمها لاحقًا إلى ثلاث مراحل.

بدأت المرحلة الأولى من الثورة الصناعية مع اختراع الآلة البخارية، وارتبطت المرحلة الثانية منها باكتشاف الكهرباء واختراع محرك الاحتراق الداخلي. ثم ما لبثت البشرية أن دخلت في المرحلة الثالثة مع نهايات القرن الماضي، وذلك بعد اختراع الحاسب الآلي (الكمبيوتر)، والشبكة العالمية للمعلومات (الإنترنت)، وتطور مجال الاتصالات بصناعة الهواتف الذكية.

والآن، نحن على أعتاب مرحلة رابعة من الثورة الصناعية، مرحلة يعدُّها الخبراء ثورة عظمى جديدة، وبطلها هذه المرة هو تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي (Artificial Intelligence) التي أضحت تمتلك القدرة على إحداث تغيير جذري في الطريقة التي اعتدنا العيش بها. فما الذكاء الاصطناعي؟ ولِمَ كل هذا الاهتمام به؟ وما تأثيراته المستقبلية علينا؟ هذا ما سنعرفه معًا من خلال هذا المقال…

تعريف الذكاء الاصطناعي وأنظمته

يعبِّر مصطلح «الذكاء الاصطناعي» عن قدرة التكنولوجيا الرقمية الحديثة -متمثلةً في الحواسيب والروبوتات- على محاكاة أفعال البشر؛ بحيث يمكن لتلك الآلات أداء المهام التي تستلزم الذكاء البشري لإتمامها، مثل: اتخاذ القرارات، وترجمة اللغات، وإجراء العمليات الحسابية والمنطقية المعقدة. وقد أحدثت تلك القدرات نقلة نوعية في أنظمة المساعد الافتراضي الذكية مثل نظام (Siri) المدمَج بأجهزة (IPhone)، وأجهزة «إنترنت الأشياء» (IoT)، وخوارزميات «تعلم الآلة» (ML).

قد تستغرب الأمر قليلًا، ولكن أنظمة الذكاء الاصطناعي في كل مكان من حولك، بل إنها أقرب إليك مما تعتقد؛ يكفي أن تكتب جملة ما على نافذة ترجمة أيٍّ من المتصفحات الشهيرة -مثل «جوجل» (Google) أو «بينج» (Bing)- حتى تظهر لك ترجمتها -بصرف النظر عن مدى دقتها- للُّغة المطلوبة فورًا، والآن تعالَ نفكر سويًّا… هل كان هذا ليحدث لولا نماذج التعرف على اللغة المرتبطة بالذكاء الاصطناعي؟ بالتأكيد لا!

تطبيقات الذكاء الاصطناعي

يمتلك الذكاء الاصطناعي إمكانيات لا حصر لها، أبرزها القدرة على معالجة كميات كبيرة من البيانات بسرعة وكفاءة، مما يجعل استخدامه فعالًا في كثير من مناحي الحياة، الخدمية منها والإنتاجية، وأهمها: هيئات الرعاية الصحية، وقطاعات الموارد المالية، وقطاع النقل ووسائل المواصلات. ويتمثل ذلك في تطبيقاته على أرض الواقع، والتي تشمل: السيارات ذاتية القيادة، وأجهزة التشخيص الطبي، ومعدات التصنيع الآلي، وآليات التعرف على الكلام والصوت والوجوه، ومواقع إنشاء الصور مثل (Midjourney)، وغيرها.

وعلى سبيل التفصيل؛ يمكن لأجهزة الكشف الطبي التي تعمل بالذكاء الاصطناعي أن تحلل بيانات المرضى بفاعلية، بهدف اكتشاف الأمراض في وقت مبكر وتحسين خطط العلاج ونتائجه. كما يمكن للمؤسسات المالية استخدام الذكاء الاصطناعي في كشف عمليات الاحتيال والتزوير، وكذلك في حساب حجم التداولات التجارية في الأسواق ومتابعة حركة مؤشرات البورصة، مما يساعد على التنبؤ بتغيرات السوق، وتأمين رؤوس الأموال بجعل التوقعات أكثر دقة.

الذكاء الاصطناعي ونماذج اللغة: قدرات ومعوقات

أمسى لنماذج اللغة دور رئيس في تطوير أنظمة الذكاء الاصطناعي لقدرتها على معالجة وإنتاج نصوص طويلة ومتسلسة بشكل متسق ودقيق، وبكفاءة لم تكن معهودة قبل الآن، والسر وراء ذلك يكمن في تدريب تلك النماذج على مجموعات ضخمة من البيانات، مما يسمح لها بإنتاج نصوص تطابق تلك التي نبدعها بعقولنا، بل وفي سياقات ولغات مختلفة. واليوم تتنوع استخدامات هذه النماذج ما بين -على سبيل المثال لا الحصر- إنتاج الردود عبر روبوتات الدردشة (Chatbots) الخاصة بخدمة العملاء، وكذلك المساعدة في كتابة المقالات الصحفية، بل وحتى في الكتابة الإبداعية.

لكن وبالرغم من الارتقاء الكبير الذي أحدثته في مجال الذكاء الاصطناعي وتعلم الآلة، لا تزال هذه النماذج تواجه بعض القيود؛ ومثالًا على ذلك: ليس بمقدور نموذج (ChatGPT) أن يمتلك إدراكًا لعالمنا كما نفعل نحن، حتى الآن على الأقل، بل يعتمد فقط على البيانات التي يستمدها من المستخدمين، وهذا يعني أنه قد ينتج عنه ردود أو ترجمات غير دقيقة في بعض الأحيان. كما أن نماذج اللغة ترتكز بشكل كبير على البيانات التي يوفرها لها مطوِّروها، أي أنها قد تنقل تحيزات أو مفاهيم تتعارض مع مبادئ المستخدمين أو قناعاتهم ومعتقداتهم الخاصة.

تحديات تواجه الذكاء الاصطناعي

لا ننكر أن تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي قد أصبحت جزءًا لا يتجزأ من حياتنا، لكنها صارت تواجه مؤخرًا مجموعة من التحديات الأخلاقية والاجتماعية. وعلى وجه الخصوص، تلك المتعلقة بنماذج اللغة المستحدثة والتي أمست تطرحها الآن على الساحة بقوة واطِّراد؛ فلم يعد الاهتمام بها متوقفًا عند قدرتها على إنتاج نصوص شبيهة بما يستطيع البشر صياغته، بل تعدَّى الأمر ذلك لتُثير هذه النماذج عدة تساؤلات حول التهديدات المتوقعة والمخاطر المحتملة للذكاء الاصطناعي.

تُشكِّل معدلات النمو المتزايد في استعمال أنظمة الذكاء الاصطناعي تحديات كبيرة كذلك، ومن أكثر القضايا إثارة للقلق تلك الخاصة بزيادة احتمالات فقدان البشر لوظائفهم اعتمادًا على الذكاء الاصطناعي كبديل. والأمر يستحق القلق فعلًا؛ فمع استمرار تطويرها واكتسابها للخبرة، سيكون بمقدور تلك الأنظمة تنفيذ المهام التي كانت تُوكَل للبشر، وسيؤدي هذا حتمًا إلى فقدان كثيرين لوظائفهم واضطراب أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية بالتبعية، لا سيَّما تلك الوظائف التي تعتمد على الآلات في جوهرها، مثل قطاعي التصنيع والنقل.

الجانب المظلم من الذكاء الاصطناعي

هناك هواجس تتفاقم بشأن استغلال الذكاء الاصطناعي في صناعة «الأسلحة ذاتية التشغيل» (Autonomous Weapons) الفتاكة والمحظورة دوليًا، والتي لا مجال للخوض في تفاصيلها الآن. هذا غير قضية الخصوصية التي تؤرق الجميع؛ فمثلًا يمكن للنماذج اللغوية جمع البيانات الشخصية والمعلومات الحساسة من المستخدمين دون موافقتهم -أو حتى معرفتهم- والاستعانة بها في تحقيق أغراض غير مشروعة، كالاستيلاء على إيداعات العملاء والتلاعب بأسواق المال، بل والتأثير على الرأي العام في عمليات التصويت؛ وما الانتخابات الأمريكية عام 2016 والجدل الذي أعقب إعلان نتائجها عنَّا ببعيد.

ومما يزيد من إثارة المخاوف قدرة أنظمة الذكاء الاصطناعي على انتهاك الخصوصية بطرق أخرى، غير تلك المعتمدة على إدخال المستخدم بياناته طوعًا، ومن أشهر تلك الطرق: تقنية التعرف على الوجوه وما يرتبط بها من عمليات التجسس ومراقبة المستخدمين، هذا بجانب تقنية «التزييف العميق» (Deepfake) وإمكانية إساءة استخدامها بسهولة في نشر الإشاعات المزيفة والمعلومات الكاذبة وتشويه سمعة الأبرياء. وإذا أردت مثالًا يقرب إليك خطورة تلك التقنية، يمكنك مشاهدة مقطع الفيديو المنشور منذ عامين ويظهر فيه شخص استطاع تزييف شكل وجه الممثل الشهير «توم كروز» (Tom Cruise) وصوته، والذي ظن الناس جميعًا في بادئ الأمر أنه هو بشحمه ولحمه، أعني بوجهه وصوته.

في النهاية…

يمكن للذكاء الاصطناعي أن يحدث تغييرًا عظيمًا في حياتنا اليومية، ولكنه يثير العديد من التحديات الأخلاقية والاجتماعية والقانونية. وهنا تأتي أهمية النظر في الجوانب الإيجابية والسلبية لاستخدام الذكاء الاصطناعي، والعمل على توفير حلول مناسبة لتحقيق جُل الفوائد وتحييد كل المخاطر. من المهم كذلك تطوير نماذج اللغة باستمرار لتحقيق نتائج أكثر دقة وشفافية وتجنب الأخطاء والتحيزات. ولأننا بشر سمتنا التعاون، فالعمل معًا واجب لتحسين القدرة على التعامل مع أنظمة الذكاء الاصطناعي، وكذا التأقلم مع التغييرات السريعة الناجمة عنها.

المصادر:

  1. https://www.britannica.com/technology/artificial-intelligence
  1. https://www.simplilearn.com/tutorials/artificial-intelligence-tutorial/artificial-intelligence-applications
  1. https://www.techtarget.com/searchenterpriseai/definition/language-modeling
  1. https://builtin.com/data-science/beginners-guide-language-models
  1. https://www.webtrainings.in/advantages-and-disadvantages-of-chatgpt/
  1. https://www.thedigitalspeaker.com/privacy-age-ai-risks-challenges-solutions/
  1. https://www.bbc.com/news/technology-51034641
  1. https://journals.sagepub.com/doi/full/10.1177/2056305120903408
  1. https://edition.cnn.com/2021/08/06/tech/tom-cruise-deepfake-tiktok-company/index.html
  1. https://www.repository.cam.ac.uk/handle/1810/275332
اظهر المزيد

زياد محمد

طبيب متدرب، ومراجع لغوي، وكاتب مبتدئ. تخرجت في كلية الطب عام 2022، وقد دخلت عالم اللغة ومجال المراجعة والتدقيق منذ مدة تربو على 3 سنوات. أحب القراءة عمومًا والتاريخ خصوصًا، وأهوى الكتابة في العلوم والآداب والإنسانيات، في محاولة متواضعة لإثراء المحتوى الثقافي العربي، وعلى أمل ترك أثر ينفع الناس ويطول، قبل أن نزوى، وبعد أن نزول.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى