الهندسة البيئية وعلاقتها بالملوثات الصناعية المستحدثة

لقاء مع د.محمد عطية الباحث في مجال معالجة المياه

لا يخفى على أحد كم التحديات التي أصبح لزامًا على العالم مواجهتها حاليًا -فيما يتعلق بزيادة حجم التلوث بكافة أشكاله في البيئة من حولنا- وضرورة تبني أفكار غير تقليدية للتصدي لها والحد من مخاطرها البيئية المتزايدة باطراد. وبهذا الصدد، أجرت مؤسسة علماء مصر مقابلة خاصة مع الدكتور محمد عطية، أحد الرواد في مجال معالجة المياه من الملوثات الصناعية المستحدثة، ورئيس إحدى المجموعات البحثية المعنية بالتخلص الآمن من تلك الملوثات بالوكالة الأمريكية لحماية البيئة. وقد جاء الحوار كالآتي:

– ما الذي يرتكز عليه مجال عملك بالهندسة البيئية في بحوث معالجة المياه؟

= يهتم عملي في العموم بجودة المياه ومحاولة تحسينها عبر معالجتها بطرق جديدة ومبتكرة من خلال توظيف العديد من مبادئ الكيمياء والتخصصات الهندسية المختلفة، مثل الهندسة البيئية والمدنية والكيميائية. أحد أشهر الأمثلة على تلك الطرق هو فلاتر المياه المنزلية الموجودة في الأحواض، والتي تُصنَّع حديثًا من مواد نانوية مثل ألياف الكربون. كما أن عملية المعالجة لا تقف عند مجرد فصل الملوثات، بل تعمل على تكسيرها أو إزالة ضررها لتكون النواتج النهائية غير ضارة بالبيئة. ولتلخيص الأمر، يرتكز مجال عملي على محاولة تطوير طرق معالجة جديدة للمياه لمواجهة الملوثات البيئية الدقيقة والمستحدثة.

– ما طبيعة المواد الكيميائية السامة التي يتعامل معها مجال الهندسة البيئية؟ وما استخداماتها، وآثارها البيئية، وجدوى الطرق التقليدية للتخلص الآمن منها؟

= في البداية، تنقسم تلك المواد الكيميائية السامة إلى: ملوثات صناعية معروفة (ومن أشكالها التلوث بمياه الصرف الصحي، والمبيدات الزراعية، وتسرب النفط)، وملوثات صناعية مستحدثة. هذه الملوثات المستحدثة تتميز بأنها «ملوثات دقيقة» (Micropollutants) يصعب التعامل معها بالطرق العادية، وتنقسم بدورها إلى:

  • ملوثات صناعية تقليدية: على الرغم من التسمية، فإن هذا النوع من الملوثات ليس حديث العهد؛ أي أنه موجود منذ مدة طويلة، ولكن لم يكن لدينا سابقًا أدوات القياس الحساسة والمناسبة لرصده وتحليله.

ملوثات صناعية غير تقليدية: هذا النوع من الملوثات قد بدأ إنتاجه حديثًا، وقد زادت نسبة تلويثه للبيئة المحيطة نتيجة الإفراط في عمليات تصنيعه واستخدامه.

أبرز تلك الملوثات هي مركبات الـ«بيرفلوروكربون» (Per-Fluorocarbon) -أو (PFAS)، كما يُطلَق عليها- المشهورة عالميًا، بجانب المواد البلاستيكية أو «اللدائن الدقيقة» (Microplastics) التي قد يصل مجموع أنواعها للآلاف، وجميعها من الملوثات الصناعية الخطرة. عند الحديث عن مركبات البيرفلوروكربون، سنجد أن تلك المواد تتميز بمقاومتها للحرارة والماء والزيوت، ولهذا تُستخدَم في صناعات عدة، مثل: صناعة الأواني التي لا يلتصق بها الطعام، والعديد من الأجهزة الإلكترونية، والملابس المقاوِمة للمياه، والعلب والأكياس الورقية المقاوِمة للزيوت والدهون.

أما عن آثارها البيئية، فخطورة تلك المركبات تكمن في ازدياد تركيزاتها في المياه والتربة بما تحمله من درجة سمية عالية، ويفاقم ذلك عدم قدرة العوامل الطبيعية والبيولوجية على تكسيرها والتخلص منها، مما يؤدي لتراكمها في البيئة وامتصاص النبات لها من التربة أو انتقالها مباشرةً عبر المياه للحيوانات والبشر، فتتسبب في الإصابة بعدد من الأمراض. وهي ذات تأثيرات سُمِّية مختلفة ومتباينة لدرجة أن خطورتها قد تصل إلى الإصابة السرطانات وبعض الأمراض المناعية.

❞ الأدوات التي صارت حديثة اليوم كان من الممكن اعتبارها مستحيلة منذ أمد قريب، وهذا بالضبط ما يعطي الأمل للإجابة عن أسئلة مؤرقة كانت تبحث عن إيجاد حلول جديدة لمشكلة تلوث المياه دون جدوى في السابق ❝

د.محمد عطية الباحث في مجال معالجة المياه

– والآن، حدِّثنا عن الوكالة الأمريكية لحماية البيئة واهتماماتها وطبيعة عملك بها؟

= الوكالة الأمريكية لحماية البيئة من أهم الهيئات الدولية المعنية بالتشريعات والقوانين والبحوث البيئية، وتركز في عملها على الملوثات التي ترتبط بالعوامل البيئية الثلاثة: المياه، والهواء، والتربة. أما عن طبيعة عملي بالوكالة، فهو يركز بشكل أساسي على عامل المياه من حيث: دراسة الحلول، واختبار المواد والتقنيات (سواء الموجودة حاليًا أو التي في مراحل البحث والتطوير)، وتقييم مدى فعاليتها في حل مشكلة الملوثات البيئية المستحدثة وسبل مواجهتها.

– أخبرنا عن مجموعتك البحثية التي تقودها والتي تسعى للتخلص الآمن من الملوثات الصناعية الخطرة؟

= هي مجموعة تسعى لإيجاد وسائل جديدة ومبتكرة لإدارة أزمة تلوث المياه، كما تسعى لتجربة وتقييم تلك الوسائل وتطوير «الجيل القادم من الحلول» (Next Generation Solutions) أو إيجاد «الحلول الأكثر ابتكارًا» (More Innovative Solutions) لحل مشكلة تلوث المياه. هذه الحلول ليست متاحة بعد ليتم نشرها واستغلالها، ولكن هناك نتائج مبدئية تفيد بأن هذه الحلول قد تفيد مستقبلًا بما يتناسب مع احتياجات السوق المحلي والعالمي، وبما يلائم الاستخدام العام لها بشكل فعال وآمن.

– كيف ترى حاليًا مجال الهندسة البيئية وكيمياء الملوثات مقارنةً مع بدايتك بالعمل به؟

= بالتأكيد يشهد مجال الهندسة البيئية طفرة علمية تكبر باستمرار؛ فالتقنيات التي كانت موجودة منذ عقود قد أصبحت تقليدية، وكان لا بد من أن تعقبها تقنيات ووسائل أخرى حديثة ذات درجات حساسية ودقة عالية، وبالمثل فهذه الأدوات التي صارت حديثة اليوم كان من الممكن اعتبارها مستحيلة منذ أمد قريب، وهذا بالضبط ما يعطي الأمل للإجابة عن أسئلة مؤرقة كانت تبحث عن إيجاد حلول جديدة لمشكلة تلوث المياه دون جدوى في السابق.

– ماذا عن مجال معالجة المياه والملوثات البيئية في مصر حاليًا؟ وما توقعاتك لمستقبله في مصر؟

= المجال من حيث طبيعة العمل -فيما يخص معالجة المياه من الملوثات التقليدية- موجود في مصر، ولكنه ما زال يفتقر للتحديثات العالمية ومحاولة عمل «توطين» (Localization) لها. أحد أهم أسباب عدم وصول المجال لمراحله المتقدمة أسوةً بالخارج هو عدم وجود «بُنى تحتية» (Infrastructures) قوية بشكل كافٍ. كما أن مجال الهندسة البيئية -رغم ظهور مؤشرات لتطوره في مصر حاليًا‐ يعاني من شح البيانات التي يمكننا اقتراح حلول مبتكرة على أساسها، وبدون هذه البيانات يصعب إيجاد ووضع رؤية واضحة عما يمكن أن يكون عليه مستقبل هذا المجال في مصر.

لا أنكر أن هناك توجهًا رسميًا في مصر فيما يتعلق بإعادة استخدام المياه من خلال إنشاء محطات معالجة جديدة لها، ولكن التركيز ما زال منصبًا على الطرق التقليدية لإزالة الملوثات الصناعية المعروفة، بعيدًا عن الملوثات الصناعية المستحدثة، وينشأ عن هذا عدم الاهتمام بجمع البيانات المتعلقة بطبيعة تلك الملوثات (والتي تحتاج للرصد والقياس الدوري لمراقبة جودة المياه) وتأثيراتها الضارة على البيئة والإنسان (والتي يهمنا أن نعرف حجم خطورتها ومدى فعالية طرق التخلص منها).

يمكننا القول بأن هذا التوجه إيجابي بشكل عام، ولكننا هنا في مصر لم نصل بعد للمراحل المتطورة من معالجة المياه وتحسين جودتها مقارنةً بالدول المتقدمة. ولتبسيط الأمر؛ فإن محطات معالجة المياه قد وصلت في بعض الدول المتقدمة إلى مستوى المراحل الثلاث، ولكنه في مصر يتوقف عادةً عند المرحلة الثانية. ومع ذلك، فهذه المحطات الثلاثية لا تزال غير كافية للتعامل مع الملوثات المستحدثة، ولهذا تسعى تلك الدول المتقدمة لتطويرها. أما في مصر، فإننا لا نزال بعيدين عن ذلك، ونحتاج بشدة إلى أن نقوم بخطوة «نقل المعرفة» (Knowledge Transfer) وتطبيق خبرات تلك الدول للإفادة منها.

– ما هي المعوقات التي تواجه الباحثين في مجال الهندسة البيئية؟ ما الحلول المقترحة -من واقع خبرتك- لتلك المعوقات؟ وهل هناك حلول مناسبة منها لتطبيقها في مصر حاليًا أو مستقبلًا؟

= من أهم العوائق التي تواجه الباحثين في المجال اتخاذ القرار لتطبيق العمل به بمستوى يحاكي أو يقترب من مستواه في الدول المتقدمة للأسباب المذكورة آنفًا؛ من شأن هذا أن يقلل من الفجوة الزمنية التي نعاني منها هنا. هناك مشكلة أخرى هامة تتمثل في غياب توفر الأجهزة والأدوات والوسائل المطلوبة للأغراض العلمية والعملية كي نستطيع من خلالها تحقيق إنجاز وتقدم ملموس في المجال، قد يكون السبب لعدم وجود تسهيلات لدخول تلك الأجهزة مصر، وقد تكون هناك مشاكل في عملية استيرادها.

هناك أيضًا عائق مهم على الصعيد العالمي، هذا العائق يتعلق باحتياج مجال الهندسة البيئية لتمويلات كبيرة واستثمارات ضخمة تغطي تكاليف الأدوات والأجهزة المتطورة المستخدَمة في «تكنولوجيا معالجة المياه المتقدمة» (Advanced Water-treatment Technologies)، وهذا مع افتراض أن الدولة التي تتبنى هذه التكنولوجيا المتقدمة تمتلك بالفعل بُنى تحتية قوية تسعى لتطويرها وتقويتها أكثر. ولذلك، يشكل افتقارنا الحالي في مصر نوعًا ما لهذه البُنى التحتية القوية عائقًا جديدًا يُضاف إلى ما سبق ذكره.

وإلى جانب العوائق السابقة، فإن فكرة معالجة المياه من الملوثات المستحدثة ليست ذات أولوية هنا حاليًا، ولا أعتقد بأن هناك من يهتم بشدة بكيمياء الملوثات، أو أن هناك من لديه بيانات وخبرات كافية عن الملوثات الدقيقة أو المستحدثة. ومع ذلك، فإن الحل من وجهة نظري يتمثل في توفير الدعم المادي واللوجستي المطلوب لتجهيز المعامل واستيراد الأدوات بما يمكن أن يحقق تقدمًا في المجال، إلى جانب تقديم دورات تدريبية وتطوير مناهج مناسبة للباحثين والعاملين بالمجال لمواكبة التقدم الحاصل في الخارج.

هناك بصيص من الأمل رأيناه في بعض الجامعات الموجودة في مصر، مثل الجامعتين الأمريكية واليابانية، ولكننا ما زلنا نعاني بسبب كم العوائق التي تقف في طريقنا، وهذا بدوره يؤثر في الخطط البحثية (من حيث عدم القدرة على إجرائها بشكل موسع، أو نقص الأدوات المطلوبة وما يترتب عليه من عدم دقة النتائج)، فيبقى المنتج دومًا على قدر المتاح! ولهذا فإن التسهيلات الإدارية والحكومية الكافية مع تشجيع التمويل والاستثمارات من شأنها جميعًا أن تنجح في إعطائنا دفعة كبيرة لنحقق التقدم المرجو في مجال الهندسة البيئية ومعالجة المياه إن شاء الله.

اظهر المزيد

زياد محمد

طبيب متدرب، ومراجع لغوي، وكاتب مبتدئ. تخرجت في كلية الطب عام 2022، وقد دخلت عالم اللغة ومجال المراجعة والتدقيق منذ مدة تربو على 3 سنوات. أحب القراءة عمومًا والتاريخ خصوصًا، وأهوى الكتابة في العلوم والآداب والإنسانيات، في محاولة متواضعة لإثراء المحتوى الثقافي العربي، وعلى أمل ترك أثر ينفع الناس ويطول، قبل أن نزوى، وبعد أن نزول.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى